كلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية

المستخلص

 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:
فإن مستجدات العصر وقضاياه قد فتحت آفاقًا ومجالات من المعرفة كبيرة وواسعة، وجددت الواقع الذي نعيش فيها بجملة من المعطيات الزاخرة بالتنوع العلمي مع شمولها لحياة الناس في جميع أنماط المعيشة ومجالاتها بكلِّ ظواهرها وطوارئها.
وهي دلالات تقتضي ضرورة تجديد الخطاب الديني وفق المنهج الذي رسم خطته علماء الأمة ومفكروها عبر التاريخ، انطلاقًا من مقتضيات كمال الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو أعظم أوصافها الوارد في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
إنَّ خطاب الشرع الشريف "يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات" كما قال الإمام الشاطبي، ومِن ثَمَّ إن فهم هذا الخطاب الشرعي له قواعد وضوابط ويمثل منهجًا متكاملًا ورَّثه العلماء جيلًا بعد جيلٍ يعتمد على قراءة رشيدة للنصوص والفهم الدقيق لمجريات الحياة وما يواجهها ويعترضها على كافة الأصعدة المختلفة والمتغيرة في آنٍ معًا، حتى يحصل الوصل بين النصوص والواقع، وهو لا يتحقق إلا من خلال ثنائية:
أولهما: فهم واقع نصوص القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة من خلال الوقوف على مبانيها واستبانة مرامي دلالاتها واستجلاء المعنى المراد منها، وهو ما يمكن أن نُطْلق عليه "فقه واقع النَّص".
والثانية: تحقيق المناط باستظهار الأوصاف المؤثرة بملاحظة الظروف والملابسات المحيطة، وهو ما يمكن أن نسميه "فقه تطبيق النص"، وهذه الثنائية نوعا الفهم اللذين عبَّر عنهما الشيخ ابن القيم بـ"فهم الواقع والفقه فيه" و"فهم الواجب في الواقع".
وبذلك تتأسس معالم التصور الصحيح لفقه الواقع ومحدداته؛ وتتأكد أهمية مراعاته في الاجتهادات الفقهية والفتاوى -في ظل ما تمارسه المؤسسات الإفتائية والمجامع العلمية- من أجل تعزيز أحقية الشريعة الإسلامية ومصداقيتها، ومن ثَمَّ صلاحيتها في كلِّ زمان ومكان، خاصةً للأجيال المعاصرة والتي تعيش في عالم مختلف تمامًا عن أجدادهم؛ ولقد أظهرت هذه الفتاوى وتلك الاجتهادات بدورها قدرة حاسمة وناجزة على معالجة ما أفرزته المسيرة الإنسانية بتجاربها المتعددة؛ إذ تظهر باستمرار أسئلةٌ أخلاقية ومعنوية جديدة وقضايا مستجدة؛ مثل آثار التغير المناخي وتحدياته، واستخدامات الذكاء الاصطناعي، والتعقيدات المالية الحديثة وتحديات التقدم الطبي.
وتدور موضوعات أبحاث هذه العدد من مجلة دار الإفتاء المصرية حول ما ذكرنا من أهمية فقه الواقع، ومراعاته في استنباط الأحكام الشرعية في المسائل والمستجدات، في ظل الجهود التي تبذلها دار الإفتاء المصرية في مسيرة تجديد الخطاب الديني.
والأبحاث المنشورة بالعدد 56 من مجلة دار الإفتاء المصرية، ثلاثة:
الأول تحت عنوان: "أثر التغير المناخي على رؤية الهلال في صوم رمضان- دراسة في ضوء الفقه الإسلامي"، والذي ناقش مدى تأثير الظواهر الجوية التي أحدثها التغير المناخي في متعلقات عبادة الصيام التي هي ركن من أركان الإسلام؛ خاصة مسألة ما يَثبت به الشهر الفضيل.
والثاني تحت عنوان: "الرقابة على المنتجين والتجار وأثرها في تحقيق الجودة وتوازن الأسعار- دراسة حول الرؤية الشرعية والجهود الحكومية والمجتمعية"، والذي قدَّم تصورًا متكاملًا عن مفهوم الرقابة، ومشروعيتها، وأنواعها، وأهدافها، ووسائلها، ودور الشريعة وأجهزة الدولة وهيئاتها ومؤسسات المجتمع في ذلك، مع الوصول إلى النتيجة الحاسمة في هذه القضية، والتي تؤكد على تكاتف الجميع، وأن مراقبة الضمير للمنتجين والتجار هي المعول في عملية سلوك الفرد والمجتمع.
والثالث تحت عنوان: "القرائن غير النصية الصارفة للأمر عن الوجوب وأثر ذلك في الفروع الفقهية"، والذي تناول بالبحث مسألة من مسائل أثر القرائن في توجيه دلالة الأمر، كصيغة من صيغ الإنشاء في تلك القضية، وهي قضية مهمة يحتاجها الفقيه والمفتي في فهم واقع النصوص من جهة استظهار القرائن المؤثرة والملابسة في سياق دلالة صيغة الأمر على الحكم والترجيح بين دلالاته وفق القرائن، مع إيراد الأمثلة والتطبيقات الفقهية المبثوثة عبر الأبواب المتنوعة.
كما يتميز هذا العدد -ولأول مرة-، بإضافة فتوى دار الإفتاء المصرية الصادرة في موضوع "استظهار القصد في الطلاق الشفوي" مع مقدمة تحليلية لأهم البنود المنهجية التي روعيت في صناعة معتمد الفتوى في واقعات الطلاق؛ انطلاقًا من رؤيةِ المجلة ورسالتها، التي تتسق مع رؤية ورسالة دار الإفتاء المصرية، والتي لا نألو جهدًا في أن تمضي قُدمًا نحو تأسيس رؤية متكاملة تعود بمكانة ومسئولية الإفتاء في المجتمعات إلى سابق عهدها، رميًا إلى بناء نسقٍ معرفيٍّ متكامل يوطد لهوية الأمة، حتى تستعيد دورها الريادي في دعم وترشيد مسيرة الحضارة الإنسانية.
وفي الختام آمل من المولى سبحانه وتعالى أن يحققنا بالتوفيق والقبول، وأن يكلل هذه الجهود المشكورة وتلك المساعي الحميدة في مجال الدراسة والبحث العلمي بالنجاح والفلاح في خدمة الإسلام والمسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين،،
أ. د/ شوقي علَّام
مفتي جمهورية مصر العربية