كلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية

المستخلص

 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:
فإن من مِنة الله تعالى أن جعل الأمة المحمدية خير أمةٍ أخرجت للناس، مِن أمةٍ اختصها الله تعالى بخيرِ الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم وخيرِ الكتب وخيرِ الشرائع والرسالات؛ هذه الرسالة العالمية التي ما مِن خيرٍ للبشرية في حياة أفرادها ومجتمعاتها ومعادهم إلا واشتملت عليه وقررته، رحمة وهداية، حيث قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
ولقد قام بناء الشريعة الإسلامية بجهود الفقهاء عبر القرون التي اهتمت بوضع قواعدَ وضوابط تعصم مراعاتُها عقل الفقيه من الخلل، وتجعله يُشْرِف على نصوص الكتاب والسُّنَّة النبوية المشَرَّفة من منطلق قويم، والذي يظهر في علم أصول الفقه ومباحثه.
ومن نصوص القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة ومسائل الفقه وأصوله، انطلقت الكليات الشرعية والقواعد الفقهية، والتي تُعَدُّ خلاصة الشرع الشريف، وزُبدة العقول الفقهية المبدعة عبر العصور، لأنها آتية من تأمل عباقرة الفقهاء ومحققيهم واستقرائهم ومقارنتهم وتقليب نظرهم في النصوص وغايتها، وحِكَم الشرع الشريف ومقاصده؛ فجاءت تلك القواعد الفقهية في بنائها وصياغتها وفي ربط جزئيات الفقه بها وتفريع تطبيقاتها من خلال المسائل والفروع التي تندرج تحت هذه، وما يُستثنى منها مما له بها شبه صوري وعند التحقيق يتبين أن قاعدة أخرى قد جذبته فاندرج تحتها.
وهو موضوع مهم اعتنى به عدد من الأئمة كالإمام الفَنَّاكي الشافعي (المتوفَّى عام 448 ه/ 1056م) في كتابه "المناقضات"، والإمام القرافي في كتابه "الفروق" (المتوفَّى عام 684هـ/ 1285م)، والإمام تاج الدين ابن السبكي (المتوفَّى 771هـ/ 1370م).
إن سرَّ هذا الاهتمام من قِبل فقهاء الأمة عبر القرون بالتقعيد الفقهي يظهر في بيان الإجراءات التي من شأنها ارتقاء الفقيه والمفتي إلى الاستعداد لمراتب الاجتهاد، مع الإعانة على تنزيل الأحكام على واقع المستجدات من خلال التخريج القواعد، بالإضافة إلى أنها تغني عن حفظ فروع الفقه وجزئياته، بل إن القواعد الكلية مانعة لتناقض الفتاوى وتضارب الأحكام.
قال الإمام القرافي في "الفروق" (1/ 3، ط. عالم الكتب) في تقرير هذا المعنى: "مَن جعل يُخَرِّج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضتْ عليه الفروع واختلفتْ وتزلزلتْ خواطره فيها واضطربتْ، وضاقتْ نفسه لذلك وقنطتْ، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى وانتهى العمر ولم تقضِ نفسُه مِن طلب مُناها، ومَن ضَبَطَ الفقه بقواعده استغنى عن حفظِ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقضَ عند غيره وتناسب" اهـ.
ولا شك أن طرق هذا الموضوع بالأبحاث الأكاديمية الجادة هو عمل في غاية الأهمية، لكونه مظهرًا من مظاهر الاجتهاد والتجديد، خاصة عند التصدي للمستجدات والنوازل الجديدة أو محاولة ضبط المسائل التي تترتب عليها الحقوق وتتحدد من خلالها الواجبات.
وتدور موضوعات أبحاث هذه العدد من مجلة دار الإفتاء المصرية حول ما ذكرنا من أهمية تحديد المفاهيم والضوابط في المسائل والتقعيد، والإفادة من ذلك في استنباط الأحكام الشرعية في المسائل والمستجدات، في ظل الجهود التي تبذلها دار الإفتاء المصرية في مسيرة تجديد الخطاب الديني، والأبحاث المنشورة بالعدد 55 من مجلة دار الإفتاء المصرية، ثلاثة:
الأول تحت عنوان: "أثر المناخ في الأحكام الفقهية"، والذي ناقش مدى تأثر الأحكام الفقهية بالظروف المناخية في عدد من مسائل العبادات والمعاملات وكذلك أحكام الأسرة والحدود والقضاء.
والثاني تحت عنوان: "أقل المهر عند الحنفية"، والذي تناول مسألةً مهمةً من مسائل الفقه التي اهتم الفقهاء بدراستها؛ لتعلقها بحقٍّ أصيلٍ من حقوق المرأة، والذي يكثر حولها الاختلاف في تقدير معيار القلة والكثرة فيها، والذي يرتبط بلا شك بالأحوال والأعراف واختلاف البيئات.
والثالث تحت عنوان: "الأعذار بخفاء الحكم وتطبيقاته في فقه الشافعية"، وهو بحث اهتم بالكشف قاعدة لم تأخذ حظها من الدرس والتحليل، رغم أنها تمثل مظهرًا من مظاهر التيسير في الدين ورفع الحرج عن المكلفين، وهي العذر بخفاء الحكم، والتي يتفرع عليها عدد من المسائل والفروع والتي بلغت خمسا وعشرين فرعا.
إنَّ دار الإفتاء المصرية إذ تَسْعَد أن تُقَدِّم هذا العدد لقرائها، فإنها تؤكد حرصها المستمر على أن تأخذ بكلِّ جديدٍ في مجال البحوث الفقهية والأصولية والإفتائية، والعمل على مواكبة كلِّ ما يفيد، وما يتفاعل مع القضايا المستجدة في حياة الناس والعصر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين،،