كلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية

المستخلص

 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:
فإن الفقه علم مستمر على مر العصور والأزمنة، وعلى تقلب الأحوال والأطوار، دون انقضاء ولا انقطاع، وقد جعل الله تعالى اجتهاد الفقهاء في المستجدات والوقائع في موضع الوحي الشريف بعد انقضاء زمانه من حيث بيان الأحكام ومشروعية تعبد المكلف بها قبولًا وعملًا.
وبذلك تظهر الحاجة لاستمرار الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد والتجديد والذي تتولاه بالأصالة المؤسسات الإفتائية والمجامع الفقهية من خلال طَرْق مباحثه والكشف عن سماته وآدابه، وإحياء مفاهيمه وطرائقه وموضوعاته، فذلك من فروض الكفاية، لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].
والاستنباط لغة الاستخراج، يقال: استنبط الفقيه إذا استخرج الفقه المتضمَّن في الأدلة باجتهاده وفهمه، وهو مؤسس على أصلين: أولهما: إدراك دلالات نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ووعي أبعادها الجزئية والكلية، القريبة والبعيدة، وثانيهما: تنـزيلها على الوقائع والمستجدات.
وفي هذا السياق تواصل دار الإفتاء المصرية عطاءها العلمي والوفاء بمسؤوليتها ودورها في إحياء المعارف الفقهية والأصولية الضابطة لمنهجية الفتوى واستنباط الأحكام الفقهية في القضايا والمستجدات المعاصرة، من خلال إصدارها العدد الرابع والخمسين من مجلتها المتخصصة، وهو عدد خاص مثل سابقيه؛ إذ تدور الأبحاث التي يضمها حول مباحث أصولية تهتم بدلالات النصوص، وبحث أحكام مسألة من المستجدات المعاصرة.
وهذه الأبحاث في جملتها تنطلق من العلاقة الوطيدة بين اللغة العربية وبين علم أصول الفقه؛ التي هي علاقة استمداد واحتياج وتبادل، فقد قرر الإمام القرافي في مقدمة كتابه "الفروق" أن غالب مدار علم أصول الفقه ما هو "إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يَعْرِض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك".
من هنا يظهر سِرُّ اهتمام أهل الاجتهاد والفقه والأصول بمباحث اللغة والدلالات اللفظية باعتبارها من أوثق المباحث الأصولية، ولذا اعتنى الأصوليون بهذه الأبحاث والمسائل عناية خاصة ووضعوا صبغة تجديدية تميزت بجملة من السمات التي لم تُعْهَد لدى اللغويين من قَبل شكلًا بالاصطلاح والتبويب والمناهج، أو مضمونًا ببحث معاني ألفاظها الدقيقة إفرادًا وتركيبًا، والغوص في أسرارها وأساليبها بعد التسليم بنتائجها المستقاة من ينابيع أهل اللغة حتى وصلوا باستقرائهم الخاص إلى أمور لا تقتضيها صناعة النحو، وقد دلل لذلك وبحثه تنظيرًا وتفريعًا ثلة من محققي الأمة كتاج الدين السبكي وابن الحاجب والتلمساني وابن الأنباري وغيرهم حتى وقتنا المعاصر.
لقد جعلت هذه العلاقة المتداخلة بين الدرس اللغوي والدرس الأصولي الوقوفَ على تلك الأبحاث مسألةٌ أصيلةٌ في مسيرة التجديد والاجتهاد الفقهي والإفتائي للاهتداء إلى قصد الشرع الشريف فيها، فالاجتهاد التنزيلي يهتدي بالنص الشرعي دلالةً ومقصدًا في تطبيق تلك الأحكام النظرية المجردة على المستجدات في حياة الناس وتنزيلها في واقعهم المتغير والمتجدد، بما يظهر ضوابط منهجية الفتوى المنضبطة، ويؤكد على مرونة الفقه الإسلامي وصلاحيته، ويكشف عن سمات الوجه الحضاري لديننا الحنيف وما يتوخاه من نشر قيم العمران والاستقرار والعدل.
والأبحاث المنشورة بالعدد 54 من مجلة دار الإفتاء المصرية، ثلاثة:
الأول بعنوان: "أثر الاحتمالات الواردة على معنى النص الشرعي في اختلاف الفقهاء- تغيُّر الإعراب والتصريف أنموذجًا" وهو يدرس أثر الاحتمالات الواردة على معنى النصوص الشرعية ظنية الدلالة في عملية الاستنباط وإدارة الخلاف الفقهي وأسبابه مع تطبيق ذلك على تغيِّر الإعراب والتصريف كأنموذجٍ عملي.
والثاني: بعنوان "مقتضى الأمر بالشهادة دراسة أصولية تطبيقية على آيات القرآن الكريم" وهو بحث اهتم ببيان المراد من صيغة الأمر بالشهادة الوارد في ستة مواضع من آيات القرآن الكريم.
والثالث: "أثر مواقع التواصل الحديثة على الأحكام- دراسة فقهية مقارنة"، والذي تضمنت مباحثه بيان الأحكام الفقهية المتعلقة بمواقع التواصل الحديثة، والتي منها حكم إنشاء مواقع التواصل، ومدى أثر إجراء العقود عبر هذه الوسائل، والأحكام المترتبة على اختراق المواقع وانتحال الشخصيات.
إن دار الإفتاء المصرية إذ تَسْعَد أن تُقَدِّم هذا العدد لقرائها من المهتمين والمتخصصين، فإنها تؤكد حرصها المستمر والدؤوب على أن تأخذ بكلِّ جديدٍ في مجال البحوث الفقهية والأصولية والإفتائية، والعمل على مواكبة كلِّ ما يفيد، وما يتفاعل مع القضايا المستجدة في حياة الناس والعصر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين،،
                                                                                       أ. د/ شوقي علَّام
                                                                                   مفتي جمهورية مصر العربية