كلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية

المستخلص

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن نشأة المجتمع وانضواء أفراده تحت نظام عامٍّ، ضرورة تقتضيها حاجة الناس بعضهم إلى بعضٍ، من أجل تلبية احتياجاتهم واستقرار حياتهم وتدبير شئونهم، فالإنسان الواحد لا يمكنه أن يقوم بذلك بمفرده، بل هو مفتقرٌ إلى غيره، من الوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والجيران، وأهل العلم والصنائع... إلخ.
وعلى الرغم من أن مصطلح "النظام العام" معاصر النشأة من حيث تركيب شِقَّيه، إلا أن المتأمل في نصوص الأصوليين والفقهاء يجد أنهم قد استعملوا كلمة "النظام" وقصدوا به النفع العام أو المصلحة العامة كثيرًا، مع ظهور أنهم قد حدَّدوا مفهومه وسماته وتحرَّوْا نطاقه وبحثوا شروط تطبيقه وفق ثلاثية متراكبة تتمثل في: (حق الله تعالى أو الحق العام، والأحكام الشرعية من طريق الطلب في حالة النفع والإيجاب، ومن طريق الحظر في حالة الضرر، وحق الفرد ومصلحته).
ويُراد بمبادئ "النظام العام" وقواعده الفقهية والقانونية: الأمور التي تهم المجتمع أكثر ما تَهُم الأفراد بما يحافظ على كيان المجتمع وبقائه سليمًا ويُحقق مصالحه الأساسيَّة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
وهي بمجموعها تهدف إلى ضبط حركة المجتمع ضبطًا حكيمًا ناظمًا لحركة الحياة بحيث يعرف كلُّ فردٍ فيه حقوقه وواجباته فيقوم بها، وحدود حريته حتى لا يتجاوزها ويتعداها بسبب انسياقه وراء الأهواء والرغبات؛ فـ"شهوات الناس تختلف وتتضاد، وسبيل الحقِّ أن يكون متبوعًا، وسبيل الناس الانقياد للحقِّ" كما قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (12/ 140، ط. دار الكتب المصرية)؛ وهذا كله امتثالٌ لأمر الله تعالى؛ فـ"ما من حقٍّ لآدمي إلَّا ولله فيه حقٌّ، وهو أمره بإيصاله لمستحقِّه ونهيه عنْ أكله بالباطل" كما أفاده العلامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (4/ 174، ط. دار الفكر).
من هنا، تتأكد أهمية مراعاة مبادئ "النظام العام" وقواعده في عملية الاجتهاد الفقهي والنظر الإفتائي عند النظر في المسائل والمستجدات، مما يساهم في ضبط حركة الأفراد داخل إطار المجتمع من دون إمكان المجاوزة، فقد يكون هناك اتفاق أو معاملة هي في نفسها لا تتضمن مخالفة -إذا ما قصرنا النظر عليها في ذاتها- ولكنها بالنظر إلى النظام العام وقواعده الآمرة نحكم عليها بالمنع والبطلان.
وهو أمر يظهر بوضوح في الاجتهادات الفقهية والإفتائية الصادرة عن دار الإفتاء المصرية المتعلقة بالمستجدات والظواهر الاقتصادية كـ"المستريح"، و"التسويق الشبكي"، و"التجارة بالعملة"، و"العملات الافتراضية" ونحو ذلك؛ حيث انطلق النظر الشرعي فيها بالمنع في الجملة؛ لكونها تشتمل على معانٍ لا تظهر إلا من خلال تتبع المآلات وتتبع الآثار السلبية على "النظام العام"، سواء من الجانب الاقتصادي الذي يظهر في فقدان الحماية الاقتصادية والقانونية، واهتزاز السوق واضطرابه، والتأثير على الإنتاج والادخار، أو من الجانب الاجتماعي؛ نتيجة أن نمط هذه المعاملات يُشَجِّع على الاستهلاك غير الرشيد، والاتجاه نحو الكسب السريع دون عمل أو بذل مجهود فتضيع ثمرة نماء العمل وفائدة الإنتاج، كما يؤثر على منظومة العمل التقليدية القائمة على قيدي (السلطة والمسئولية)، بالإضافة إلى وجود ممارسات غير أخلاقية من استخدام الكذب والتدليس كوسيلة للترويج.
كما يظهر ذلك أيضًا في الفتاوى المتعلقة بالجوانب الاجتماعية للنظام العام ومستجداته المعاصرة؛ وعلى رأسها "الأسرة"؛ حيث أصبح الزوجان يمارسان وظائف ومهام حياتهما الأسرية في ظل تحولات كبرى ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، بما يُشكل تحديًا كبيرًا ومباشرًا على كيان الأسرة وكيان المجتمع وهويته.
ولذا يُراعي النظر الشرعي في كلِّ ما يتعلق بهذا الجانب أن تُغلَّف الأحكام بالمعاني الطيبة التي تتألف بها القلوب وتحرص عليها الأنفس، وتحيطه بجملة من المبادئ والإجراءات التي تضمن بها نجاحه واستمراره وإثمار أهدافه، والتي منها التأكيد على أن صلة الزوجية هي صلة الجزء بكله، والكل بجزئه، فالأصل أن يَحْمِلَ كلٌّ منهما الآخر ويُكَمِّله ويسكن إليه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم: 21]، وأن الأساس الذي تبنى عليه العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة؛ إرساء لما في هذين المعنيين من معاني الإنسانية البحتة الخالية من النظرة المصلحية أو الجفوة العاطفية؛ فقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
وجملة هذه الدلالات متضمنة في أبحاث هذا العدد (52) من مجلة دار الإفتاء المصرية، فنطالع فيه ثلاثة أبحاث رصينة:
فالأول بعنوان: "المتاجرة في العملات النقدية واحتكارها دراسة فقهية مقارنة"، وقد تناول دراسةَ وبيان الأحكام والضوابط الشرعية لـمُستجِدَّةٍ من المستجدات الاقتصادية بالغة الأثر في سوق النقد والاقتصاد القومي، مع بحث حقِّ الدولة في تقنين نظامها بما يحافظ على الاستقرار ويحقق النفع ويثمر الرخاء والعمران.
والثاني تحت عنوان: "مهددات الاستقرار الأُسَرِي إشكاليات وحلول -دراسة شرعية لأهم المهددات التقليدية والعصرية"، حيث تناول بالرصد والدراسة الشرعية والاجتماعية أهم المظاهر التقليدية والعصرية التي تؤثر سلبًا على الاستقرار الأسري في المجتمعات العربية والإسلامية مع التعرف على أسبابها، وآثارها السلبية، وطرح الحلول الشرعية والعملية والتي إذا تمت مراعاتها انعكست إيجابًا على استقرار الأسرة وأمن المجتمع.
والثالث بعنوان: "حسم الخلاف في خدمة المرأة لزوجها وأثره في تحقيق الاستقرار الأسري –دراسة فقهية مقارنة"، وقد تضمنت مباحثه وموضوعاته جمع شتات المسألة، بما يلقي الضوء على طبيعة العلاقة الزوجية الوثيقة، وبيان حقوقِ وواجبِ كلٍّ من طرفيها؛ وفق مقومات متوازنة نفسيًّا وعقليًّا؛ ومسايرة للآداب الشرعية المطلوبة على الدوام؛ كالمودة، والرحمة، والتفاهم، والمشاركة في تحمل أعباء الحياة دون أنانية أو تقصير.
وفي الختام نسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين،،