كلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية

المستخلص

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن الخلاف بين العلماء نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، ومظهرٌ من مظاهر رحمة الله للأمة المحمدية، ويُسرٌ وسعةٌ في شريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتسمة بالسهولة والسماحة؛ كما قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أحب الدِّين إلى الله الحنيفية السمحة» (المعجم الأوسط للطبراني/ 7351).
والخلاف سمة رئيسية للأصوليين والفقهاء؛ شاع بينهم، وشمل كلَّ أفكارهم واجتهادهم في المسائل الظنية، وهو أمرٌ متوقع وطبيعي؛ وليس فيه عيب في أصله أو ذاته، لاختلاف الأفهام والمدارك، وعدم تساوي الكسب والتحصيل للعقول كمًّا وكيفًا؛ بل إن وجود الخلاف في الأصول وضعٌ صحيح لوجود المذاهب وتميزها؛ لأن مجرد الخلاف في الرأي مع الاتفاق في الأساس والمرجعية لا ينبني عليه اعتبار كلِّ رأيٍ مذهبًا خاصًّا يتميز عن غيره في المبادئ والاتجاه والسمات!
والخلاف كما هو واقع بين الفقهاء واقعٌ أيضًا بين الأصوليين؛ بل إن الخلاف الفقهي -على الرغم من كونه المظهر العملي لشتى أنواع الخلاف- نابعٌ في أصله من الخلاف الأصولي، ومتأثرٌ من حيث الرجحان والمرجوحية والقوة والضعف بالأصل، وهذا مقررٌ في عبارات الأصوليين والفقهاء كـقولهم: "بناء الأصول على الأصول"، و"تخريج الفروع على الأصول" وقولهم: "يُخرَّج هذا الأصل على كذا" ونحو ذلك، بل قال الإمام المازري في "إيضاح المحصول" (ص: 224، ط. دار الغرب الإسلامي): "اعلم أن المطلوب من أصول الفقه الانتفاع بها في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وما لا منفعة فيه في الفقه، فلا معنى لعَدِّه من أصوله".
ولذلك أعطى علماء الأئمة أهمية كبيرة لوضع منظومة متكاملة لمسائل علم أصول الفقه ومباحثه ومدارسه بهدف الوصول إلى طرق الاستنباط المنضبطة، وهو أمر لا يحصل إلا بجمع الآراء والاختلافات ومناقشتها والترجيح بينها؛ لأنه كثيرًا ما تتباين وجوه الاستشهاد والاستدلال وتتفق النتيجة والقول.
وهو اتجاه تجديدي حكيم، ساعد على تسليط الضوء على العلاقة بين الخلاف بين الأصوليين وبيان أثر ذلك في الخلاف بين الفقهاء، وإظهار سمات الرباط الوثيق بين العلوم وحُسْن امتزاجها وكونها خادمة لبعضها بعضًا، وإبراز خصائص وسمات المدارس والمناهج بين المذاهب المختلفة.
إننا نلمح ذلك جليًّا ومنذ عهود مبكرة في "مسائل الخلاف في أصول الفقه" للقاضي الحسين الصَّيْمَرِيِّ الْحَنَفِيِّ (ت: 436هـ/ 1045م)، "مسائل الخلاف في أصول الفقه" للإمام محمود اللامشي الحنفي (ت: 522هـ/ 1128م)، و"سلاسل الذهب" للإمام ابن بهادر الزركشي الشافعي (ت: 794ه/ 1392م)، وغيرها من الكتب التراثية والأبحاث المتخصصة المعاصرة.
وهي جهودٌ تؤكد أن التأليف والبحث في هذا المجال يـُمَـثِّـل معينًا خصبًا للآراء الأصولية والتفسيرات والتعليلات المنطقية والكلامية والمستندات من الكتاب والسُّنَّة ودلالات اللغة العربية التي تبناها كلُّ مجتهدٍ في تقرير اجتهاده ورأيه، بالإضافة إلى ذكر المسائل الفقهية تمثيلًا واستشهادًا، والموضوعية في بيان وجه قول المخالف، وتحرير محل النزاع، ونقده وتصحيحه من خلال المناقشة الهادئة والأخذ والردِّ المتزن، مع أدبٍ كبيرٍ ورِقة في العبارة. 
ولا يخفى أننا في حاجة ماسَّة إلى تجلية هذه المناهج الراقية في إدارة الخلاف بين المذاهب المختلفة وفي قضية تجديد الخطاب الديني نظرًا وعملًا، لأن هذه الجهود الجادَّة التي قدَّمها هؤلاء الأئمة المحققون ساهمت في إدارة حضارية وفهم منهجي للخلاف العلمي الحاصل في علمي الأصول والفقه، حيث كان يسودها طلب الحقائق ونزاهة القول وهدوء النفس، لا التعصب للرأي وجفاء القول وإخفاء الحقائق وسط زوابع الأهواء المتنازعة والأثرة التي لا يَألفها الحق ولا تَألفه؛ مما أسهم مساهمة كبيرة في تحقيق الاستقرار في المجتمعات وتوفير مناخ علمي بين المدارس المتنوعة، يثمر التكامل بين الآراء المختلفة واستثمارها في التوسعة على الخلق والرحمة بهم.
وجملة هذه الدلالات متضمنة في أبحاث هذا العدد (51) من مجلة دار الإفتاء المصرية، فنطالع فيه ثلاثة أبحاث رصينة:
فالأول بعنوان: "حجية الإثبات بالتوقيع الإلكتروني في عقود الاستثمار -دراسة فقهية"، وقد تناول دراسةَ مسألة مستجدةً "التوقيع الإلكتروني" كصورة من صور الإقرار على النفس وحصول صيغة العقد (الإيجاب والقبول) في ظل تطوير نظم ووسائل الإثبات مواكبة للتطور التكنولوجي وسرعة التحولات الاقتصادية.
والثاني تحت عنوان: "تَحرِير مَحَلِّ الخلافِ عندَ الأصوليِّينَ مُقارَبةٌ في إحدى عَلائقِ الوَصْلِ بين عِلْمَي الأصولِ والجَدَلِ"، وقد تضمنت مباحثه وموضوعاته جمع شتات المسألة، بما يلقي الضوء على معرفة منشأ الخلاف بين الأصوليين باعتباره خطوة أولية لتدقيق وتحرير نسبة الآراء إلى أصحابها بما يثمر استقرارًا وتوحيدًا لطرق الاستنباط المنضبطة في ظل اختلاف الآراء، وتمييزًا لِما يَسُوغُ فيه الإنكارُ مما لا يَسُوغُ من مسائلِ الخلافِ.
والثالث بعنوان: "الخِلاَف الأُصُولِيّ في التَّعْلِيلِ بِالعِلَّةِ القَاصِرَة وأَثَرُه فِي الفُرُوعِ الفِقْهِيَّة"، والذي يدور حول مبحث أصولي له أهمية كبيرة في إثبات مرونة الشرع الشريف وأنه صالح لكل زمان ومكان، مع ذكر مسائل فقهية تمثيلًا واستشهادًا.
وفي الختام نسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين،،