كلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم

المستخلص

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإننا دومًا ما نؤكد على بيان موقع الفتوى في الخطاب الديني الراهن، وكونها أهم مفردات ذلك الخطاب الذي نسعى سعيًا حثيثًا لبعثه بعثًا ملائمًا لمفرزات ونوازل الحداثة المعاصرة؛ فالخطاب الديني الجديد الذي نتطلع إليه يحتاج إلى فهم مقاصدي وإدراك لمقتضيات العصر ومصالح الإنسان فيه، والفتوى بوصفها صناعة مرنة ترتبط بالإنسان وحاجياته ومعوقات حياته التي تُمثِّل عنصرًا مهمًّا من عناصر ذلك الخطاب.
فالفتوى تُسهم في تكريس انتماء المسلم لفضائه الديني بما تُنجزه من مواءمة بين التزامات وإلزامات الدين الإسلامي من جانب،واشتراطات الحياة المتحركة من جانب آخر؛ والفتوى تُمارس عملها في منطقة وسطى بين الديني والإنساني؛ ومن هنا احتلت مكانةً مرموقةً في تاريخ الثقافة الإسلامية بما تتمتع به من حيوية عملية مستمدة من ارتباطها بواقع الحياة اليومية للمستفتِي؛ ومن وظيفتها القائمة على إيجاد حلولٍ دينيةٍ للمشكلات الفردية والجماعية.
إن القضايا التي تتصدى لها الفتوى تثير عدة تساؤلات واستفسارات تتعلق بحقائق الحياة الاجتماعية، وتُركِّز على فهم وتحليل نشاطات الإنسان المختلفة، وتُحاول تعليل أسبابها وتشخيص نتائجها وملابساتها؛ نظرًا لتداخل جميع الوظائف الاجتماعية واتصال كلِّ أجزاء الحياة الاجتماعية اتصالًا وثيقًا.
وانطلاقًا من ذلك تعيَّن البحث في تحقيق التكامل المعرفي بين الفتوى وبين العلوم الإنسانية التي تتداخل وتتشابك؛ فليس من السهل أن نتصور حدودًا واضحة تفصل فصلًا محددًا بين فروع العلوم الإنسانية المختلفة؛ ذلك لأنَّ الإنسان هو محور اهتمامها جميعًا، وإن تباينت الزوايا التي يتناولها كل علم بالدراسة والتحليل، وفي ظلِّ ما آلت إليه الأمور من تطور وتعقُّد على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لم يعد من الكفاية العلمية أن تعتمد الفتوى على الزاد الفقهي وعلوم الآلة التقليدية مُغفِلَةً العلوم الاجتماعية التي تهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية والعلاقات والتفاعلات الإنسانية.
وما زالت دار الإفتاء المصرية تسعى لتطوير تلك الصناعة وإكسابها أبعادًا اجتماعية وإنسانية حقيقية، ولم تتوقف جهودنا في دار الإفتاء عن تحقيق تلك الغاية النبيلة وصياغة علم الفتوى صياغة متكاملة نرى فيها ذلك التفاعل بين مخرجات العلوم الإنسانية وعملية صناعة الفتوى، ونلمس كم الترابط بين تلك العلوم وبين علم الفتوى، بحيث تخرج الفتوى ملائمةًتمامًا للحالة العصرية التي يعيشها المستفتِي، وتجيب عن سؤاله في سياقه الزماني والمكاني المناسب، ومن ثَمَّ تحقق غايتها الشرعية في تعبيد الناس لله تعالى بما يطيقونه، وما يحقق مقاصد الشرع ومصالح العباد.
وفي هذا السياق تنشر مجلة دار الإفتاء المصرية في عددها التاسع والأربعين ثلاثةَ أبحاثٍ مهمة تتناول قضايا اجتماعية وتأصيلية تُبرز طريقة التعامل الشرعي مع قضايا اجتماعية ملحة تحتاج إلى بيانٍ شافٍلموقف التشريع الإسلامي منها، ومقاصده من معالجتها بما ينعكس على الحالة المجتمعية بالاستقرار والتماسك؛ فيتناول البحث الأول منها «العدل بين الأولاد من منظور إسلامي وأثره على الأمن الأسري والمجتمعي»، ويناقش حكم التفضيل بين الأولاد في العطية والأمور المعنوية وآثاره، كما يتطرق لأحكام عدة تتعلق بالرجوع في العطية والنفقة الواجبة على الأولاد وتقسيم المال عليهم حال الحياة ونحو ذلك من القضايا التي يُعنَى المجتمع بها وتؤثر على أَمنِهِ.
أما البحث الثاني فقد جاء تحت عنوان «سفر المرأة بدون محرم قديمًا وحديثًا دراسة فقهية معاصرة». ويتناول البحث قضية مهمة باتت من مثارات الخبط والغلط اليوم؛ نتيجةً لغياب الفهم المقاصدي وإدراك التغيرات العصرية، ويبرز البحث ضرورة فهم الفقيه للتغيرات التي حدثت، والأحوال التي اختلفت، ويجاريها بما لا يخالف النصوص الشرعية، وبما يوافق فهم مقاصدها، ويبيِّن كيف كان السفر قديمًا يختلف عن السفر حديثًا في أمور كثيرة من حيث السرعة والسهولة والأمن والحماية وعدم الانقطاع عن الناس وتواجد العمران وانفتاح البلدان مع بعضها البعض؛ ولذلك فإن الحكم يختلف تبعًا لهذا التغير وهذا الاختلاف.
ويخلُص البحث إلى أنه متى أمكن سفر المرأة مع محرم أو زوج فهو أولى وأحوط وأكثر حمايةً للمرأة، وذلك في كل وقت وعصر ومكان وزمان، وخروجًا من الخلاف، ويبرز اختيار دار الإفتاء المصرية جواز السفر بدون محرم مطلقًا عند أمن الطريق سواء كان سفرًا واجبًا أو مستحبًّا أو مباحًا ما دام السفر طاعة وليس معصية.
ويوضح البحث العلة الرئيسية في ذلك، وهي التأكد من أمن الطريق والمسير، فإن لم يتأكد ذلك فلا يباح سفرها وحدها، كما يُظهر البحث معقولية العلة التي أناط بها الفقهاء الحكم في القديم، وأنها ليست تعبدية مما يجعل الحكم يدور مع تلك العلة قديمًا وحديثًا.
وأخيرًا تعرض المجلة بحثًا أصوليًّا بعنوان «قاعدة العبرة بأوائل الأسماء أو بأواخِرها، وأثرها في الفروع الفقهية»، وهو يتعرض لقاعدة أصولية مهمة ذات تطبيقات فقهية متعددة، ويُبرز البحث أهمية القاعدة عمومًا وأنها واسطة بين الحكم الشرعي ودليله، وهي آلة استنباطه؛ حيث يقوم المجتهد بتسليط القاعدة الأصولية وتنزيلها على الدليل الجزئي ليتمكن من استخراج الحكم الشرعي، ثم يتطرق للقاعدة محل البحث خصوصًا، وأن الحكم إذا تعلق باسم فإن هذا الاسم له جزئيات متباينة من حيث العلو والدناءة، والكثرة والقلة، والبداية والنهاية، فيذكر بِمَ يتحقق مسمَّى الحكم بفعل أيٍّ من هذه الجزئيات؟ وما يترتب عليه من آثار فقهية عديدة؟.
وقد بيَّن البحث آراء العلماء في القاعدة، وأدلتهم، والراجح منها، وضوابط العمل بالقاعدة، ثم ذكر علاقة القاعدة بقاعدة الاحتياط، وقاعدة الزيادة على القدر المجزئ من الواجب، ثم بيَّن البحث أثر الخلاف في الفروع الفقهية.
ونقدم للقراء الكرام هذه البحوث الثلاثة لتكون إسهامًا لمجلة دار الإفتاء المصرية في إثراء المعارف الشرعية لدى عموم المسلمين ولدى المتخصصين على حد سواء، وتأكيدًا على مرونة الفقه الإسلامي ووفائه بحاجات هذا العصر من النوازل والوقائع والمستحدثات.
والله الموفق والمستعان.
د. ابراهيم نجم
الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم