کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي الديار المصرية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فإن الله تعالى قد حثَّ الأمة کلها على تخريج فريق من المجتهدين في کل زمن وبيئة من أجل وصل الحياة بالدين بطريقة صحيحة وبث علوم الإسلام وآدابه بين الأمة وتثقيف أذهان أفرادها حتى تنتفع بأنوار هداية هذا الدين الحنيف لمصالحها هي أولًا، ولصيانة مسيرة الحياة البشرية أيضًا.

وفي ذلک يقول الله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122]، وفيه دلالة صريحة على أن تحصيل شرائط الاجتهاد وسماته ضرورة حياتية وفريضة دينية کفائية، يقوم العلماء فيها بمهمة سامية حيث يستخلفون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في أمته بإبلاغ شريعته وحفظ مواردها من التبديل والتغيير، والکشف عن معالم وسمات مناهج فهمها وضبط قواعد هذا الفهم وأصوله على أحسن تدبير حتى غدا علم أصول الفقه للشرع الشريف أساسًا، وأصبحت مناهجه ومباحثه وقواعده محررة ونبراسًا، يهتدي به المجتهدون والمفتون في استنباط الأحکام من النصوص الشرعية وتنزيلها على الوقائع والمستجدات بصورة توافق مراد الشرع وترفق بأحوال المکلفين دون تشدد أو انحراف.

لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم أصول ومناهج هذا العلم الشريف وسار من بعده أئمة الإسلام فبذلوا أقصى طاقاتهم في إظهار معالم الوحي وحقائقه واستجلاء مقاصده وغاياته ومعانيه ضمن إطار هذا العلم، وکذا علم الفقه؛ وکلاهما عِلْمان متوازنان وبناءان؛ حيث يجمعان بين النقل والعقل باعتبارهما وجهين متلازمين لحقيقة الأحکام الشرعية.

وفي ذلک يقول الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: "وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد"().

وبذلک تتحدد وظيفة علم أصول الفقه وتتلخص في بناء أسس الفهم، وقواعد الفقه ومناهج عملية الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعية بصورة جامعة لمکوناته، بما يشير إلى صياغة عقل المسلم وتصوراته لمسائل التدين الصحيح وقضاياه صياغة حکيمة لها أصولها المعرفية وضوابطها المنهجية، وتعيد ترتيب الأولويات العلمية والحضارية بما يثمر في تحقيق مصالحه ويقيم عمران الحياة واستقرارها.

ولا يخفى أن جمع هذا العِلم بين صريح العقول وصحيح النقول يمثل سرًّا من أسرار جعل علم أصول الفقه علمًا شامخًا ومقومًا أساسيًّا في تنمية الإنسان وبناء شخصيته وتربيته وتکوينه بکلياته الخمس: دينًا ونفسًا وعقلًا ونسلًا ومالًا بصورة متزنة، وفق منهج وسطي في الفهم والتطبيق على السواء دون تضخيم لجهة على أخرى، ولا تغذية صفة في المکلف على حساب أخرى، فلا يذهب به إلى الغلو أو الإفراط، ولا يميل به إلى التقصير أو التفريط.

ولا تزال مسيرة التجديد الأصولية الفقهية مسيرة حية ثرية ونامية باطراد لم تغلق ولم تُعَطَّل على مدار التاريخ الإسلامي؛ بل هي في الحقيقة مسيرة منظَّمة؛ فلم توکل مهمة استنباط الحکم الشرعي من الدليل التفصيلي لأي إنسان، بل کان ذلک لشخص توفرت فيه شروط وأهلية تجعله قادرًا على أداء هذه المهمة الجليلة، وفي ذلک يقول الله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

وجملة هذه الدلالات متضمنة في أبحاث هذا العدد من مجلة دار الإفتاء المصرية والتي دارت حول التجديد المستوعب للتراث الأصولي والفقهي بطريقة تبني عليه وتطور من مفاهيمه ومصطلحاته من خلال الاستحضار للسياقات العلمية والثقافية والاجتماعية کمظهر من مظاهر معانقة الدرس الأصولي أفق حياتنا العصرية، بما يؤکد على أهمية إظهار هذه المناهج الحکيمة الکامنة من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وهو مظهر تجديدي إيجابي تستطيع الأمة من خلاله أن تعالج اختلال النظام المعرفي وتجيب عن مستجداتها ونوازلها الجديدة بطريقة حکيمة تناسب العصر، ولا تعکس خلافات وصراعات الماضي التي تدور التيارات والجماعات المتشددة حولها.

ونطالع في هذا العدد أربعة أبحاث: فالأول بعنوان: "الإيماء ودلالته على العلة عند الأصوليين"، وقد تناول دراسةَ مسألة مهمةٍ في عملية استنباط الأحکام الشرعيَّة، وهي دلالة الإيماء على العِلِّيَّة، مع إبراز أن مسلک الإيماء له بُعد عقلي يؤسس للاجتهاد في الوصول إلى علل الأحکام وفق منهج تشريعي يتسم بتکاملية المسالک النقلية للعلة، والمسالک العقلية التي تحتاج في معرفة العلة إلى فکر ونظر.

والثاني تحت عنوان " التقييد بالوصف الغالب عند الأصوليين "دراسة تحليلية تطبيقية على أحکام الأحوال الشخصية"، وقد تضمنت مباحثه وموضوعاته جمع شتات المسألة، وتحديد اصطلاحاتها، وتحرير أقوال الأصوليين فيها، وکشف أسباب اختلافهم مع إظهار أهمية الوقوف على أثر الدرس الأصولي لقضية التقييد بالوصف الغالب في المعالجة الشرعية لمسائل وقضايا الأحوال الشخصية.

والثالث بعنوان: "التَّخْصِيصُ بالقياسِ وأثرُه في الفِقْهِ الإسْلَامِيّ"، والذي يدور حول بيان أثر القياس باعتباره أحد مخصصات العام، وهو مبحث أصولي له أهمية کبيرة في إثبات مرونة الشرع الشريف وأنه صالح لکل زمان ومکان.

والرابع: تحت عنوان "الجدل عند الفخر إسماعيل -غلام ابن المنِّي- [ت: 610هـ] دراسة في منهج الجدل الفقهي من خلال جزء «التَّعليقة»"، حيث تناول موضوعه منهجَ الجدل عند أحد أعلام المذهب الحنبلي، وذلک من خلال الجزء المخطوط لکتابه «التَّعليقة»، مع الاهتمام ببيان معالم الجدل عند صاحبه -الفخر إسماعيل- ومسالکه في الاستدلال الجدلي ومنهجه في عرض الأسئلة وترتيبها.

وفي الختام ندعوا من المولى سبحانه وتعالى أن يکتب لهذه المجلة المبارکة الخير والنجاح في خدمة الإسلام والمسلمين، حتى تؤتي هذه الجهودُ المنشورة فيها ثمارَها کما جنينا من سوابقها.

                                                               أ د/ شوقي علَّام

                                                          مفتي جمهورية مصر العربية