کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فقد اتجهت الأمة المحمدية عبر عصورها إلى تدوين علم الفقه وتوضيح معالمه ورسم مناهج استنباطه وبيان ينابيع استمداده بطريقة فريدة حققت الانضباط في حرکة التشريع وإصدار الأحکام الشرعية والفتاوى بصورة معتدلة ووسطية -لا تذهب بالناس إلى الإفراط أو إلى التفريط- مع توفير ضمانات السلامة من الأقوال المضطربة والآراء الشاذة التي تسبب الخلل أو الفوضى في الحياة الفکرية والعملية.

إن أئمة الفقه الإسلامي وعلماءه من لدن عصر الصحابة إلى العصر الحاضر لا يحکمون بکل ما يبدو لهم من غير ملاحظة أصول وقواعد متبعة عندهم، وإن لم يصرحوا بها في جميع الأحوال؛ فالإمام علي رضي الله عنه استخرج عقوبة السکران قياسًا على حد القذف، فقال: "إِذَا شَرِبَ سَکِرَ، وَإِذَا سَکِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى (أي قذف کاذبا)، وحد المفتري -أي القاذف- ثمانون"([1])، بل نهج فيه منهج الحکم بالمآل أو الحکم بسد الذرائع، وأخذ ابن مسعود رضي الله عنه بقاعدة "المتأخر ينسخ المتقدم أو يخصصه" في الحکم بأن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها تکون بوضع الحمل وليس بالأربعة أشهر وعشر.

وعلى هذا جرى أئمة التابعين والأئمة المجتهدون حتى تکامل نمو هذه المباحث على يد الإمام الشافعي رضي الله عنه فرتب أبواب علم أصول الفقه وجمع فصوله ومباحثه وناقش موضوعات کلٍّ مناقشة عملية رصينة، ثم سار على هذه الأصول من أتى بعده فتلقوها بالشرح والتفصيل والتوضيح والتقعيد والتنظير مع الزيادة عليها خاصة عند أهل المذاهب الأخرى، مما جعل علم الفقه وأصول استنباطه وقواعده ومناهجه علمًا حيًّا متجددًا؛ فضلًا عن أن ذلک مَثَّل سرَّ ضبط فروع الفقه ومسائله وجزئياته، وضمان جودة تخريج مستجداته ونوازله على أصول الاستنباط المرعية وإلحاقها بکلياتها.

 يقول الإمام القرافي في مقدمة کتابه الفريد "الفروق": "إن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفًا وعلوًّا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان: أحدهما المسمى بأصول الفقه.. والقسم الثاني: قواعد کلية فقهية جليلة، کثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحِکَمه، لکل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يُحصى ولم يذکر منها شيء في أصول الفقه، وإن اتفقت الإشارة إليه هنالک على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل.

 وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يَعْظُم قدرُ الفقيه، ويَشْرف ويَظْهر رونقُ الفقه ويُعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتکشف، فيها تنافسَ العلماءُ وتفاضلَ الفضلاءُ، وبرز القارح على الجذع([2])، وحاز قصب السبق من فيها برع، ومن جعل يُخَرِّج الفروعَ بالمناسبات الجزئية دون القواعد الکلية تناقضتْ عليه الفروع واختلفتْ، وتزلزلتْ خواطره فيها واضطربتْ، وضاقت نفسه لذلک وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى وانتهى العمر ولم تقضِ نفسه من طلب مُناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أکثر الجزئيات لاندراجها في الکليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب"([3]).

وفي هذا السياق تنشر مجلة دار الإفتاء المصرية في عددها السادس والأربعين أربعة أبحاث اهتمت باستشراف آفاق مستقبل مُشرق وواعد لضبط عملية الاستنباط وبيان معالم مناهجه المستقرة واستکشاف قواعده والقيم الجمالية المتضمنة في أحکامه، وهي کالتالي:

الأول: بعنوان "الضوابط الأصولية لمخالفة ظواهر النصوص الشرعيَّة"، وهو موضوع مهم في عملية الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعيَّة، حيث عُدَّ سببًا من أسباب اختلاف الفقهاء، وقد تضمن البحث دراسة هذا الموضوع مع وضع الضوابط التي يسّوغ من خلالها صرف النص عن ظاهره.

والثاني: تحت عنوان: "نحو تداول الفتوى المؤسّسيّة عَبْرَ مَواقعَ إلکْترُونيّة لضبط المنهجية الإفتائية"، وقد تضمنت مباحثه وموضوعاته بيان أهمية ومميزات الفتوى التي تصدر عن مؤسسات الإفتاء المتخصصة باعتبارها مؤسسات فنية لا مذهبية، وليس لها أي توجهات أو أغراض، مع إيراد عدة نماذج لفتاوى دار الإفتاء المصرية في مواجهة الأفکار المتطرفة والإرهابية.

والثالث: تحت عنوان: "الأَحْکَامُ المُتَعَلِّقَةُ بِحَقِّ المُرُورِ فِي الطُّرُقَاتِ دِرَاسَـةٌ فِقْهِـيَّةٌ مُقَارَنةٌ"، حيث اهتم ببيانِ عنايةِ الشرع الشريف بالطريقِ وتنظيمه وضبطه بطريقة متوازنة لا تعوق حرکة المرور، ولا تعطل مصالح المارَّة وتحافظ على الملکية العامة والخاصة في آن واحد.

والرابع: بعنوان "القيم الجمالية وأثرها في فقه المعاملات المالية من منظور شرعي"، وهو مساهمة طيبة في إظهار الارتباط الوثيق بين الأحکام الشرعيَّة المتعلقة بالمعاملات المالية وبين جملة من القيم الجمالية في حياة المکلف، مع بيان الأثر الفقهي المترتب على الالتزام بهذه القيم من عدمه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،

أ.د/ شوقي علَّام

مفتي جمهورية مصر العربية



[1]) سنن الدار قطني حديث رقم 3444.

[2]) الجذع يکون من الإبل فيما بلغ السنتين، والقارح منها: ما أوفى خمسة أعوام، ومقصد الإمام من هذا التشبيه: أنه لا يبرز في الفقه ويسبق غيره فيه إلا من جمع قواعده الکلية وأحاط بها حفظًا وفهمًا وتطبيقًا.

[3]) الفروق، ط. عالم الکتب (1/ 3).