کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

المستشار الأکاديمي لفضيلة مفتي الجمهورية وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية


بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سیدنا ومولانا رسول الله، وعلى آلِه وصحبه ومَنْ والاه، وبعد:

فقد خلَّف انتشار فیروس کورونا المستجد COVID-19)) آثارًا غیر مسبوقة فی مجالات الحیاة البشریة کافة، مما جعل الأمة الإنسانیة تعیش ظروفًا استثنائیة انعکست سلبًا على الواقع بتغییر کثیر من مظاهر الحیاة المعتادة والمألوفة، وعلى رأسها العبادات والشعائر الدینیة لدى المسلمین والتی یشترط فیها الاجتماع کصلاة الجماعة والجُمع والأعیاد والعمرة والحج.. إلخ.

نعم، لقد استجدت بسبب هذه الجائحة مسائل شرعیة مهمة فی العبادات والمعاملات والأحوال الشخصیة تحتاج إلى اجتهاد خاص یراعی ظروف هذه الحالة الاستثنائیة ویعمل على بیان الأحکام الشرعیَّة المناسبة لها بما یساعد المجتمعات على المواجهة الحکیمة لهذا الوباء، وبما یوجه الفرد المسلم نحو صیاغة برنامجه الیومی وفق منهج رشید حتى یحافظ على حیاته وصحته دون مخاطرة أو تفریط.

ولذا قامت دار الإفتاء المصریة مشارکة مع مؤسسات الدولة المصریة فی مواجهة آثار وتداعیات هذه الجائحة من خلال التوجیه العلمی ونشر الوعی وبیان الأحکام الشرعیَّة للمسائل والنوازل المستجدة والمتنوعة حولها، وفق اجتهاد تجدیدی، صادر من أهله، وواقع فی محله، ومنضبط بالمنهج العلمی الصحیح الذی اتبعه علماء الأمة فی مواجهة الأوبئة والمخاطر عبر العصور.

ومن أبرز سمات هذه المنهجیة المتبعة فی التعامل مع المستجدات والنوازل المعاصرة:

(أ) الانطلاق من مرونة الفقه الإسلامی التی تثبت تجدده المستمر وعدم جموده من خلال قدرته على استیعاب الحوادث الطارئة ومواجهة القضایا الجدیدة وإعطائها حکمًا شرعیًّا وفق القواعد العامة والمقاصد الکلیة، وهو ما أکده الإمام الشاطبی (ت: 790هـ) حیث ذهب إلى أن النصوص الشرعیة وإن لم تتناول کل جزئیة على حدة بالنص على حکمها، إلا أنها أتت بأمور کلیة وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ولابد من تحقیق المناط بالنسبة إلى کل ناظر وحاکم ومفتٍ([1]).

(ب) مراعاة الحقائق والمعارف التی یقررها أهل الخبرة والاختصاص؛ باعتبارها مفیدة وضروریة للفقیه فی الإحاطة بالواقع مما یساعده وبشکل مباشر فی الوصول إلى الحکم الشرعی للمسألة باطمئنان، ولا یجعله یضع عددا من الاحتمالات لهذا الواقع فی حالة عدم وقوفه على تصور واضح للمستجدة، ومن ثَمَّ تأتی معالجة الفقیه المتضمنة للحکم الشرعی تابعة لهذه الاحتمالات، الأمر الذی یؤدی إلى عدم حسم المسألة فی کثیر من الحالات.

فعند النظر فی مسائل العبادات التی تتطلب اجتماع الناس وحشد الأعداد الکبیرة کالعمرة والحج وصلاة الجماعة والجمعة والعیدین وصلاة الجنازة والتراویح ومجالس الذکر وصلة الأرحام تم تقریر توقف هذه العبادات بصورتها الجماعیة دون الفردیة بصورة مؤقتة؛ مراعاة للإجراءات الاحترازیة والوقائیة المبنیة على ما قرره أهل الاختصاص فی بیان طبیعة هذه الجائحة من سرعة انتشار هذا الفیروس عن طریق العدوى بین الأشخاص خاصة فی حالة المخالطة وملامسة المرضى والأسطح المحیطة بهم دون مراعاة وسائل الوقایة وتدابیر النظافة، وأن مدة حضانة الجسم لهذا الفیروس تصل إلى عدة أیام، یکون الإنسان خلالها حاملًا لهذا الفیروس ومصدرًا لانتقاله للآخرین، سواء ظهرت علیه أعراض الإصابة، أو لم تظهر علیه أعراضه أصلًا.

(ج) مراعاة الفوارق بین الأحکام الشرعیة المستقرة وبین الأحکام الشرعیة الاستثنائیة التی تأتی على خلاف الأصل، وتُعَدُّ أحوالًا عارضة لها ظروفها وأسبابها، وفی ذلک یقول العز بن عبد السلام: «وقد یجوز فی حال الاضطرار ما لا یجوز فی حال الاختیار»([2]).

ولا تخفى أهمیة هذا البُعد فی فهم القواعد الشرعیَّة بطریقة صحیحة ترشد المسلم إلى سمات التعامل الرشید فی سائر شئونه ومجریات حیاته، سواء کانت فی الظروف الطبیعیة المعتادة، أو فی المراحل الاستثنائیة، وهو فی أیهما إنسان نافع وصالح یبنی ذاته ویکوِّن شخصیته بإیجابیة بما ینفع مجتمعه ووطنه.

وفی هذا السیاق نطالع فی هذا العدد الثالث والأربعین من مجلة دار الإفتاء المصریة ثلاثة أبحاث مهمة:

 أولها: لفضیلة أ.د/ شوقی علَّام، مفتی الدیار المصریة، وهو تحت عنوان: "فقه الطوارئ: معالم فقه ما بعد جائحة فیروس کورونا المستجد"، وقد تضمَّنت مباحثه وموضوعاته رسم إطار عام لفقه الطوارئ من خلال بیان حکمه التکلیفی والجهة المنوطة به مع ذکر جملة من المراحل والقواعد والأصول الضابطة التی یحتاج إلیها الفقیه فی التعامل مع الطوارئ والجوائح.

والثانی: للدکتور/ مرزوق فتحی عید تحت عنوان: "أحکام أثر وباء فیروس کورونا على العبادات- دراسة فقهیة"، حیث تضمنت مباحثه وموضوعاته آثار هذا الوباء فی جانب العبادات وأحکامها التکلیفیة، وبیان مدى تأثیر الأوبئة العامة على بعض العبادات بالتغییر أو بالتعلیق أو بالإسقاط أو بالتشریع لأجلها کقنوت النوازل.

ویُحلل البحث الثالث فتاوى دار الإفتاء المصریة الخاصة بالجائحة تحت عنوان: "فتاوى دار الإفتاء المصریة المتعلقة بفیروس کورونا المستجد –دراسة تحلیلیة"، للباحث/ مصطفى حسن أحمد، حیث أبرز البحث جوانب هذه الفتاوى ومراحلها ومداخلها، وکشف عن مستنداتها الشرعیَّة والعلمیة وفق المناهج والقواعد الأصولیة والفقهیة المقررة لدى أهل الاجتهاد والفتوى، مع تصحیحٍ للمفاهیم المغلوطة المثارة من أهل التطرف، وتوضیحٍ للدوائر المتقاطعة بین العلوم الکونیة والعلوم الشرعیة.

وفی الختام نسأل الله تعالى التوفیق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمین،،



([1]) ینظر: الموافقات فی أصول الشریعة، ط: دار المعرفة (4/ 90 وما بعدها).

([2]) قواعد الأحکام فی مصالح الأنام (1/ 87).