کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية


بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبی بعده سیدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فیعتبر طریق الوسطیة والتیسیر ورفع الحرج والمرونة والتجدد والتوازن بین شئون الدنیا وأمور الآخرة هو سفینة النجاة للأفراد والمجتمعات، وأحد مقومات نهضة الأمة وقوتها فی مسیرتها عبر التاریخ نحو حیازة رضا الله تعالى وصلاح الدنیا وعمران الأرض وعموم الخیر فی العالمین، فقد کان من دعاء النبی صلى الله علیه وسلم لربه الکریم: «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِی دِینِی الَّذِی هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِی، وَأَصْلِحْ لِی دُنْیَایَ الَّتِی فِیهَا مَعَاشِی، وَأَصْلِحْ لِی آخِرَتِی الَّتِی فِیهَا مَعَادِی، وَاجْعَلِ الْحَیَاةَ زِیَادَةً لِی فِی کُلِّ خَیْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِی مِنْ کُلِّ شَرٍّ»([1]).

وهو دعاء جامع شامل متکامل مستوعب لکل مظهر من مظاهر الحیاة، وکل أفق من آفاقها المتنوعة، یکشف عن تأسیس الشرع الشریف لمبادئ نظام الحیاة الجامع للدین والدنیا، ومحددات بناء النسق الثقافی والفکری المُکَوِّن لشخصیة المسلم والأمة بطریقة عبقریة حکیمة تساهم مساهمة حقیقیة کاملة فی ترشید مسیرة الإنسانیة نحو المدنیة والعمران والحضارة.

لقد أرشد النبی صلى الله علیه وسلم أن التیسیر ورفع الحرج من أبرز خصائص الإسلام العامة، وأخص المعالم الأصیلة للأمة المحمدیة؛ وأسرع الطرق فی حصول القرب والوصول إلى الله تعالى ورسوله صلى الله علیه وسلم؛ وفی ذلک یقول النبی صلى الله علیه وآله وسلم: «سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشیء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا»([2])، ویُوصی النبی صلى الله علیه وآله وسلم مِحْجَن بْن الْأَدْرَعِ رضی الله عنه بقوله: «إِنَّ خَیْرَ دِینِکُمْ أَیْسَرُهُ، إِنَّ خَیْرَ دِینِکُمْ أَیْسَرُهُ»([3]).

ومن مظاهر تیسیر الشریعة الإسلامیَّة وسماحتها تحقق الانسجام بین دائرة الثابت ودائرة المتغیر بصورة تامة؛ من خلال الالتزام بالمناهج وأصول الشرع وقطعیاته، وفی ذات الوقت لا یحصل جمود على المسائل والجزئیات التی تستجد وفق حاجیات الناس ومقتضیات کل عصر، حتى یعیش المسلم زمانه وأوانه؛ فالمسلم ابن وقته.

ولذا نجد أن النبی صلى الله علیه وسلم من خلال سنته المطهرة القولیة والعملیة والتقریریة قد رسم الإطار العام للاجتهاد وبیَّن قواعد تشریع الأحکام الشرعیَّة العامة واعتماد أدلتها الکلیة، التی شکلت أسس فقه الاستنباط والاجتهاد والفکر الأصولی العلمیة والمنهجیة، ومن أبرز الأدلة على ذلک حدیث معاذ بن جبل رضی الله عنه، الذی أورد فیه سؤالات رسول الله صلى الله علیه وسلم معلمًا إیاه حین بعثه إلى الیمن قاضیًا: «کیف تقضی إذا عرض لک قضاء؟»، قال: أقضی بکتاب الله، قال: «فإن لم تجد فی کتاب الله؟»، قال: فبسنة رسول الله صلى الله علیه وسلم، قال: «فإن لم تجد فی سنة رسول الله صلى الله علیه وسلم، ولا فی کتاب الله؟» قال: أجتهد رأیی، ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله علیه وسلم صدره، وقال: «الحمد لله الذی وفق رسولَ رسولِ الله لما یرضی رسول الله»([4]).

وهو دلیل على مشروعیة اتساع الأدلة الأصولیة وتشعب البحث الأصولی، بما یلبی حاجة المجتهد والفقیه والمفتی فی استنباط الأحکام الشرعیَّة لکل أمور الناس وشئون الحیاة ونوازلها ومستجدتها المتعددة؛ فقد انطلق منه الفقهاء والأصولیون عبر العصور فی تجدید الخطاب الفقهی والأصولی واستوعبوا المستجدات والقضایا المستحدثة من خلال عدة أمور کان على رأسها التوسع فی اتخاذ الأدلة والقواعد الأصولیة التی تعتبر مصادر للأحکام الشرعیَّة، فکان من هذه الأدلة وتلک القواعد ما یعتمد على النقل، ومنها ما یعتمد على العقل، ومنها ما یجتمع فیه العقل والنقل، ومنها: ما یعتمد على التجربة والحس.

وبذلک لم تنحصر عملیة الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعیَّة فی دائرة نصوص محصورة کأنها مواد جامدة محدودة؛ بل کانت دائرتها واسعة ومساحتها رحبة تتنوعت فیها المصادر التشریعیة تنوعًا کبیرًا ومنضبطًا؛ حیث أضافت المذاهب والمدارس الفقهیة إلى المصادر الأربعة المتفق علیها: القرآن الکریم، والسنة النبویة، والإجماع، والقیاس عدة مصادر وأدلة أخرى کقول الصحابی، والمصلحة المرسَلة، وعمل أهل المدینة، والاستحسان، وشرع مَنْ قبلنا، والاستصحاب، وسد الذرائع.. وغیرها، وهی مصادر کان لها دور مهم ومکانة بارزة فی عملیة الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعیَّة، بما أفسح المجال لعمل العقل الاجتهادی فی التعامل مع مختلف المستجدات والقضایا ووضع أحکام شرعیة لها فی ضوء هدی نصوص القرآن والسنة التفصیلیة ومقاصدها، ومراعاة لحرکة التطوُّر التی تشهدها المجتمعات الإنسانیة فی کل زمان ومکان.

وفی هذا السیاق نطالع فی هذا العدد الثانی والأربعین من مجلة دار الإفتاء المصریة أربعة أبحاث جادَّة:

أولها: یهتم ببیان أثر القاعدة الفقهیة: "المشقة تجلب التیسیر" فی الأحکام المتعلقة برمی الجمرات ضمن مناسک الحج، وهو مساهمة طیبة فی إظهار یسر الشرع الشریف وسماحته وتصحیح بعض المفاهیم المغلوطة الشائعة کالعدول عن فعل الرخص الشرعیة بسبب ظن نقصان الأجر بفعلها...

والثانی: تحت عنوان: "المصلحة المرسلة وأثرها فی القضایا الطبیة المتعلقة بالنساء"، وقد تضمنت مباحثه وموضوعاته بیان مشروعیة "المصلحة المرسلة" وضوابطها کدلیل أصولی، وتوضیح دورها وأثرها فی استنباط الأحکام الشرعیَّة لعدة مستجدات عصریة متعلقة بالنساء کالفحص الطبی قبل الزواج، وجراحة الولادة.

والثالث: تحت عنوان: "إیقاف الخدمات عن المدین المماطل، دراسة تأصیلیة فی ضوء الفقه الإسلامی ونظام التنفیذ السعودی"، حیث اهتم ببیان مشروعیة قرار إیقاف الخدمات عن المماطلین فی سداد الدیون کعقوبة عصریة، وتوضیح تکییفه الفقهی وضوابطه التنفیذیة وفلسفته التشریعیة والواقعیة.

ثم تناول البحث الرابع: قضیة أصولیة مهمة تحت عنوان "قول التابعی، دراسة أصولیة تطبیقیة"، من خلال رصد جملة کبیرة من المسائل الأصولیة الواردة فی أمهات کتب الأصول التی تتعلق بالتابعین ومدى حجیة أقوالهم واجتهاداتهم سواء مَنْ بلغ رتبة الاجتهاد، ومن لم یبلغها، ومتى یؤخذ بذلک فی عملیة الاجتهاد والتقلید.

وفی الختام نسأل الله تعالى التوفیق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمین،،



[1])) صحیح مسلم رقم: 2720.

[2])) صحیح البخاری رقم 6463.

[3])) مسند ابن أبی شیبة رقم: 596.

[4])) سنن أبی داود رقم 3592.