کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية


بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبی بعده سیدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فإن الشرع الشریف محیط بأفعال الإنسان وتصرفاته، فی دقیق الأمور وجلیلها، وصغیرها وکبیرها، فهو حاکم علیها إذنًا وعفوًا، وأمرًا ونهیًا، بصورة حکیمة کاملة، ومحفوظة لا یعتریها تحریف أو نقص أو تعدیل أو غیره، یقول الله تعالى: ]الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلَامَ دِینًا[ [المائدة: 3].

وقد تحقق هذا الکمال من خلال بیان القواعد الکلیة والمبادئ العامة التی یقوم علیها هذا الدین القویم، وما یحتاج الناس إلیه عبر العصور فی ضبط حیاتهم وأمور معاشهم بصورة واضحة مع ترک الجزئیات فهی غیر محصورة أو متناهیة؛ فضلا عن کون بعضها منصوصًا علیه فی کتاب الله تعالى أو فی السنة النبویة، وبعضها الآخر -وهو الأکثر- متفرع عن الکتاب والسنة بالقیاس والاستنباط والتخریج على تلک القواعد والمبادئ، والرد على المقاصد العامة تحصیلا للمصالح ودفعًا للمفاسد؛ قال الإمام الشافعی فی (الأم 7/ 313، ط. دار المعرفة): "لا یکون الحق معلوما إلا عن الله نصا أو دلالة من الله، فقد جعل الله الحقَّ فی کتابه ثم سنة نبیه صلى الله علیه وسلم، فلیس تنزل بأحد نازلةٌ إلا والکتاب یدل علیها نصًّا أو جملة".

ولذا، فالاجتهاد لم یُشرع إلا من أجل الوفاء بأحکام النوازل والمسائل المستجدة، وأول من قام بهذا المنصب الجلیل هو خاتم النبیین صلى الله علیه وسلم حیث اجتهد بحضرة الصحابة رضی الله عنهم فی بعض الأمور لحین نزول الوحی الشریف، مصححًا أو مؤیدًا، واجتهد فی أخرى لم یکن فیها نص، ومن أصرح ما یحتج به فی ذلک قوله صلى الله علیه وسلم: «إِنَّکُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَکُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَیْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِیهِ شَیْئًا بِقَوْلِهِ..» (متفقٌ علیه).

وذلک لحکمة بالغة تتجلى فی بیان مکانة الاجتهاد ومشروعیته وأهمیة وجوده واستمراره إلى یوم الدین، ورفعِ التَّهَیُّب عن أهل العلم فی استعماله لإلحاق الفروع بالأصول، وإرشادِ الأمة للعمل بما انتهى إلیه المجتهد، خاصة فی المسائل الاجتهادیة الظنیة متى طلب المجتهد الحقَّ وکان مؤهلا لذلک محصلا لشرائطه فی الاستنباط والتخریج.

ولا شک أن الأمة المحمدیة انفتحت لها أُفُق الاجتهاد والاستنباط الفقهی لمعالجة أنماط المعاملات والوقائع المستجدة والأعراف والتصرفات المتنوعة فأصبحت ذات حضارة لها من الذخائر والتراث والزاد العلمی والتشریعی ما لا تملکه أمة سواها؛ بل یشهد واقعها العملی لمسیرتها الفقهیة على تفوقها فی هذا الجانب التشریعی، فلم تقف أمامها مستجدة أو معضلة فقهیة واحدة عبر تاریخها قدیمًا أو حدیثًا؛ ومن ثَمَّ أشاد بهذا التفوق والاستیعاب عدد کثیر من غیر المسلمین وبعض المجامع العلمیة الدولیة، ومن ذلک ما قرره المؤتمر الدولی المقارن فی دورته الأولى بلاهای سنة 1936م، وما قرره مؤتمر المحامین الدولی سنة 1948م من اعتبار الشریعة الإسلامیة مصدرًا من مصادر التشریع الدولی العام.

وقد انطلقت تجارب المسلمین المعاصرة بقوة من ضرورة وجود الاجتهاد الفقهی والتشریعی واستمراره باعتباره أحد المحاور الرئیسة فی مسیرة التجدید وانضباط حرکة الحیاة والتصرفات المختلفة، وربط الأمة بواقعها المعاصر ومواکبتها للأمم الأخرى مع ملاحظة عدم الانسلاخ من ثوابتها ومبادئ هویتها المستقرة ثقافیًّا ودینیًّا وحضاریًّا واجتماعیًّا؛ وفی ذلک تشترک دار الإفتاء المصریة التی یرجع واقعها الحالی إلى شهر جمادى الآخرة سنة 1313هـ/ نوفمبر سنة 1895م مع المؤسسات الدینیة فی نشر الوعی الدینی الصحیح وقِیَمِهِ الأخلاقیة الراقیة من خلال الإجابة عن کافة أسئلة المسلمین فی جمیع أبواب الفقه والمسائل الداخلة تحت اختصاصاتها، ودراسة المسائل المستجدة والمتعلقة بالأمة عبر علمائها ولجانها المختصة وإداراتها المختلفة.

وتتیح عبر مجلاتها ودوریاتها العلمیة المتخصصة والـمُـحَکَّمة نشر دراسات الباحثین والعلماء فی المجال الفقهی، خاصة تلک التی تعالج قضایا جادة مهمة تشتد حاجة الأمة إلیها فی ظل المتغیرات والظروف الراهنة.

وفی هذا السیاق نطالع فی هذا العدد التاسع والثلاثین من مجلة دار الإفتاء المصریة ثلاثة أبحاث جادَّة: أولها: یناقش قضیة معاصرة غایة فی الحساسیة والأهمیة ألا وهی قضیة: "العُملَات الافْتِرَاضِیَّة الـمُشَفَّــــرة، ماهیتُها، خصائصُها، تکییفاتُها الفقهیة (بیتکوین Bitcoin أنموذجًا)"، لبیان وتوضیح الأحکام الشرعیَّة المتعلقة بهذه النقود الافتراضیة وأحوالها، مع الاستفادة مما أصدرته دار الإفتاء المصریة بخصوص هذه المعاملة من فتاوى وبیانات، کخطوة مبکرة لبیان الحکم الشرعی فیها.

والثانی: تحت عنوان: "أحکام العمل الإغاثی فی ضوء القواعد الفقهیة"، وقد تضمنت مباحثه وموضوعاته إظهار حضارة المسلمین وتفرد تشریعاتهم المنظمة للعمل الإغاثی ومستویاته وأحوال "الـمُغَاث" سواء کان إنسانًا أو حیوانًا، ذکرًا أو أنثى، مسلمًا أو غیر مسلم.

ویعالج البحث الثالث مسألة أصولیة مهمة تحت عنوان: "مرتبة الاتباع وموقف الأصولیین منها"، وهی قضیة قصد الأصولیون منها إحیاءَ المسئولیة والمشارکة لدى المکلف من خلال إدراکه لأدلة الفتوى والحکم الشرعی حتى لا تنزل رتبته إلى درجة التقلید المحض.

وفی الختام نسأل الله تعالى التوفیق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمین،،