کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي جمهورية مصر العربية


بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبی بعده سیدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فإن الخطاب الدینی المطروح على ساحة الأمة المعاصرة یحتاج بعثًا جدیدًا لتوضیح حقیقة هذا الدین الحنیف على صورته الحنیفیة الصحیحة، وفق المقاصد الشرعیَّة وما تقتضیه ضرورات العصر وتملیه تلک النقلة النوعیة التی أفرزتها مستجدات العولمة ونوازل الحداثة التی تواکبها البشریة فی العصر الحدیث على کافة الأصعدة وشتى المجالات.

ومن هنا تظهر الحاجة لاستمرار الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد وبث الهمة لدى العلماء والباحثین والمؤسسات المتخصصة لطَرْق مباحثه والکشف عن سماته وآدابه، وبیان حاجة الدین والناس إلیه، وإحیاء مفاهیمه وطرائقه وموضوعاته، فذلک من فروض الکفایة المطلوبة من الأمة امتثالا لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83]، الذی تضمن إشارة حکیمة إلى أن الله تعالى قد جعل الاجتهاد فی المستجدات هو السبیل لمعرفة الأحکام الشرعیَّة بعد انقطاع الوحی الشریف، وکلاهما بیان للأحکام الشرعیَّة.

 وفی ذلک یقول أبو المظفر السمعانی: "علم الفقه علم مستمر على ممر الدهور، وعلى تقلب الأحوال والأطوار بالخلق، لا انقضاء ولا انقطاع له، وقد جعل الله تعالى اجتهاد الفقهاء فی الحوادث فی مدرج الوحی فی زمان الرسل صلوات الله علیهم، فقد کان الوحی هو المطلوب فی زمان الرسل علیهم السلام بشأن أحکام الحوادث ویحمل الخلق علیها.

 فحین انقطع الوحی وانقضى زمانه: وضع الله تبارک وتعالى الاجتهاد من الفقهاء فی موضع الوحی؛ لیصدر منه بیان أحکام الله تعالى ویحمل الخلق علیها قبولًا وعملًا، ولا مزید على هذه المنقبة، ولا متجاوز عن هذه المرتبة" (قواطع الأدلة، ط. مؤسسة الرسالة 1/30).

وتنبع ضرورة وجود الاجتهاد فی کل عصر من مقدمتین: الأولى: ظنیة کثیر من النصوص الشرعیَّة فی أکثر من وجه، ولا یخفى أن ذلک من حکمة المولى القدیر ورحمته الواسعة بالعالمین؛ حیث جعل تعالى المسائل الجزئیة محل اجتهاد ونظر واختلاف بین العلماء المجتهدین، توسعةً على الأمة فی أمور معاشها وآخرتها، ومرونةً للشرع الشریف بعدم وقوفه عند صورة جامدة واحدة یتجاوزها الزمن وواقع الناس، ومن ثَمَّ کانت رسالة الإسلام محلًّا لقبول کل الأفراد بکل الحضارات والثقافات قبولًا عن اختیار ودلیل والتزام.

والثانیة: کثرة الحوادث والنوازل، وغالبها لم یرد بشأنه نص جزئی خاص، فی حین أن نصوص الکتاب والسنة منحصرة ومقصورة ومواقع الإجماع معدودة مأثورة، وفی ذلک یقول إمام الحرمین الجوینی: "نعلم قطعا أن الوقائع التی جرت فیها فتاوى الصحابة تزید على المنصوصات زیادة لا حصر لها.. وما سکتوا عن واقعة صائرِین إلى أنه لا نص فیها، والأخبار المشتملة على الأحکام نصًّا وظاهرًا بالإضافة إلى الأقضیة والفتاوى کغرفة من بحر لا ینزف" (البرهان، ط. دار الأنصار ص711 بتصرف).

وهذه المعانی تؤکد على أن

دعوى غلق باب الاجتهاد أو عدم وجوده عبر عصور الأمة محل نظر؛ لأن وجوده مستمرًّا سُنةٌ ماضیةٌ فی الأمة المحمدیة جرى علیها العمل عبر القرون؛ فإن علماء المذاهب الفقهیة باختلاف مشاربهم ومدارسهم لم یقصروا فی النظر الفقهی ولم یألوا جهدًا فی البحث عن حکم الشرع فی کل مستجدة تحصل فی واقع الناس وفی کل عصر.

کما یعتبر ما یصدر من اجتهادات شرعیة عن الهیئات والمؤسسات الإفتائیة والمجامع الفقهیة والمؤتمرات والندوات العلمیة رصیدًا عملیًّا یمثل الاجتهاد الجماعی والمؤسسی، خاصة فی المستجدات والقضایا ذات الجوانب المتعددة، والتی تتجاذبها الأمور الطبیة والاقتصادیة والقانونیة وغیرها، فضلا عن کونها مسائل مستجدة حادثة.

مع التسلیم بأنه لیس بوسع هذه المؤسسات والهیئات أو العلماء المعاصرین الذین یعملون فی المجال الشرعی أن یستوعبوا ذلک بمفردهم؛ وإنما ینبغی أن یعمل إلى جانبهم مختصون آخرون یقومون بوصف تلک القضایا المعروضة للبحث ابتغاء التعریف بطبیعتها ومکوناتها لیسهل تصویرها ثم تکییفها والبحث عن أحکام ملائمة لواقعها، وذلک کله حتى یحقق الخطاب الدینی المعاصر من خلال الاجتهاد الشرعی بمختلف صوره الاستقرار الآمن للمجتمعات والأوطان، ویأخذ بید الناس نحو التحلی بالقیم والأخلاق بما یسهم بشکل إیجابی وفعَّال فی مسیرة الأمة نحو العمران والحضارة.

غیر أن الاجتهاد نظریة وممارسة، ینبغی أن یخضع لکثیر من الضوابط المهمة، التی یلزم معالجة المسائل محل البحث والنظر فی ضوئها، وینبغی أن یسیر وفق منهجیة منضبطة ومحددة، وإلا صار الناتج عن هذا الاجتهاد بعیدًا عن الفهم الصحیح للشریعة الإسلامیة ومقاصدها، ومن ثَمَّ الوقوع فی الفوضى والتخبط، ولا شک أن هذه القواعد العامة الناظمة لعملیة الاجتهاد: من النصوص الشرعیَّة الشریفة أو ما شهدت له هذه النصوص بالاعتبار من الأدلة؛ کالقیاس وغیره، هی قواعد مؤسسة من زمن الأمة الأول فی عصر النبی صلى الله علیه وسلم والصحابة رضی الله عنهم والتی شکلت أسس فقه الاستنباط والاجتهاد والفکر الأصولی العلمیة والمنهجیة، کما جاء أن رسول الله صلى الله علیه وسلم بعث معاذ بن جبل رضی الله عنه إلى الیمن، «کیف تقضی إذا عرض لک قضاء؟»، قال: أقضی بکتاب الله، قال: «فإن لم تجد فی کتاب الله؟»، قال: فبسنة رسول الله صلى الله علیه وسلم، قال: «فإن لم تجد فی سنة رسول الله صلى الله علیه وسلم، ولا فی کتاب الله؟» قال: أجتهد رأیی، ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله علیه وسلم صدره، وقال: «الحمد لله الذی وفق رسول، رسول الله لما یرضی رسول الله». (سنن أبی داود/ 3592).

وفی هذا العدد من مجلة دار الإفتاء المصریة نطالع ثلاثة أبحاث رصینة فی هذا السیاق، فالأول بعنوان: "الترجیح بکثرة الرواة-دراسة أصولیة تطبیقیة"، وقد تناول دراسةَ إشکالیةٍ مهمةٍ فی عملیة استنباط الأحکام الشرعیَّة من الأخبار المتعارضة ضمن مباحث الترجیح ومسائله الأصولیة، وهی الترجیح بین خبرین ظاهرهما التعارض ولم یمکن التوفیق والجمع بینهما، بناء على اعتبار کثرة رواته، مع بیان آثار ذلک العملیَّة فی بعض المسائل الفروعیة الفقهیة التی اعتمد العلماء فی تخریج أحکامها على الموازنة بین الأخبار المتعارضة بخصوصها والترجیح بینها بکثرة الرواة.

والثانی تحت عنوان "استدلالات الأصولیین بحدیث معاذ بن جبل رضی الله عنه حین بعثه النبی صلى الله علیه وسلم إلى الیمن قاضیًا"، وقد تضمنت مباحثه وموضوعاته إظهار مدى عنایة علماء الأمة بمختلف مدارسهم ومشاربهم بهذا الحدیث الشریف وتلقیهم إیاه بالقبول والاعتماد فی ضبط عملیة الاجتهاد وتأصیل القواعد والآراء فی الأدلة الأصولیة وترتیبها ترتیبًا بدیعًا، نظرًا لما له من اختصاص فرید فی الاستدلال الأصولی، ودور بارز فی تشریع الأحکام الشرعیَّة واعتماد أدلتها الکلیة.

والثالث بعنوان: "تقدیر ما لم یرد بتقدیره نص فی المذهب الحنفی"، حیث تناول موضوعه استخراج منهج فقهاء المذهب الحنفی فی تقدیر ما لم یَرِد نَصٌّ بتقدیره، من خلال رصد آرائهم وتتبع أقوالهم فی المسائل والمقادیر التی تحتاج إلى تحدید حیث لم یرد لهذه المقادیر نص من الشرع الشریف بخصوصها مع تحلیل لهذه الآراء والأقوال واستخراج أصلها الفقهی الذی بُنِیَت علیه.

وفی الختام آمل من المولى سبحانه وتعالى أن یکتب لهذه المجلة الخیر والنجاح فی خدمة الإسلام والمسلمین، حتى تؤتی هذه الجهودُ ثمارَها کما جنینا من سوابقها.