کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

المستشار الأکاديمي لفضيلة مفتي الديار المصرية وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية


بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبی بعده، سیدنا محمد وعلى آله وصحبه.. وبعد:

فإن الاهتمام بقضیة التجدید والإحیاء فی العلوم الشرعیَّة من جهة المسائل ومن جهة الأدوات والوسائل هو واجب الوقت، وذلک باعتبار أن قطاعًا من الأمة قد اعتوره خلل وانحراف فی طریقة تفکیره وفهمه لهذا الدین الحنیف فذهب البعض بالأمة مذاهب الشدة والإفراط، فی حین ذهب الآخر بالأمة موارد الانحلال والتفریط.

ولذلک کانت الأولویة فی معالجة الحالة الدینیة من خلال بعث معالم التجدید والإحیاء فی کافة مناحی الحیاة حتى تعود الأمة إلى سیرتها الأولى، خاصة إذا کان هذا التجدید یهدف إلى قضیة "تجدید التفکیر الدینی والرجوع به إلى مناهج العلماء" أولًا قبل الفکر أو الخطاب.

وذلک لأن الخطأ فی المنهج أو الأدوات یؤدى إلى الخطأ فی الثمرة أو الغایات؛ ولذلک لم ترد کلمة الفکر بمعناها المصدری- الذى هو الحدوث- فی القرآن الکریم، وإنما ورد التفکر الذی یعنى إعمال العقل وأدوات الفهم فی تناول النصوص الشرعیة، ومن ذلک: قول الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ﴾ [النحل:44]، کما تکرر فی القرآن قوله سبحانه: ﴿لَّقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّکُمْ تَتَفَکَّرُونَ﴾.

والتجدید فی اللغة ضد التعتیق، من جدَّد الشیء إذا جعله جدیدًا حدیثًا، ومنه جدد عهده بمعنى کرره وأعاده، وجدد فلان الأمر واستجده إذا أحدثه وأبدع فیه، وقد وردت کلمة "یجدد" فی حدیث أبی هریرة رضی الله عنه الذی یرویه عن رسول الله صلى الله علیه وسلم قال: "إن الله یبعث لهذه الأمة على رأس کل مائة سنة من یجدد لها دینها" (سنن أبی داود/ 291).

قال العلقمی: "معنى التجدید إحیاء ما اندرس من العمل بالکتاب والسنة والأمر بمقتضاهما" (ینظر: عون المعبود، ط. دار الکتب العلمیة 11/ 260). وقال الطاهر بن عاشور: "إرجاعُهُ إلى حالة الجِدَّة، أی الحالة الأولى التی کان الشیء علیها فی استقامته وقوة أمره. وذلک أن الشیء یوصف بالجدید إذا کانت متماسکة أجزاؤه، واضحًا رُواؤه، مترقرقًا ماؤه" (ینظر: مقالات الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص: 277).

ویتلخص المعنى الاصطلاحی للتجدید حسبما قرره الأصولیون والفقهاء فی العناصر التالیة:

– إحیاء ما انطمس وفُقِدَ من السنن والأمر بمقتضاها.

– الدفاع عن الإسلام وتنقیته من المحدثات والتصدی لأهل الإفراط والتفریط.

– عند تنزیل الأحکام الشرعیّة على مستجدات الأمة ونوازلها ینبغی أن تراعى جهات تغیر الفتوى الأربع (الزمان، والمکان، والحال، والشخص)، مع إدراک صحیح للواقع بعوالمه الخمسة (عالم الأشخاص، وعالم الأشیاء، وعالم الأفکار، وعالم الأحداث، وعالم النُظم).

وهذه المعانی السامیة تنطلق منها دار الإفتاء المصریة، بما لها من مرجعیة علمیة ومنهجیة وسطیة فی فهم الأحکام الشرعیة المستمدة من الفقه الموروث على نحو من التوافق بین الرؤیة الشرعیة ومقتضیات العصر وحال المکلف، وهذا دورها فی القیام بواجب الوقت بما تقدمه من اجتهاد مؤسسی فی الاضطلاع بأعباء التجدید لمعالم صناعة الفتوى والإحیاء لمناهجها وأصولها.

ومن الآثار الشاهدة لدور دار الإفتاء المصریة فی مسیرة التجدید فی العصر الحدیث، خاصة فی مجال الإفتاء ومناهجه ومسائله وتحدیاته: قیامها بإحیاء ضوابط وقیم صناعة الإفتاء فی المناهج والوسائل عبر عصورها المتعاقبة والجهود المبذولة فی تصحیح الصورة ونشر الوعی الوسطی فی جموع أفراد الأمة فی الداخل والخارج، والتی من آخرها المؤتمر العالمی الرابع لدور وهیئات الإفتاء فی العالم تحت عنوان "التجدید فی الفتوى بین النظریة والتطبیق".

ولا ریب أنها خطوات جادة من شأنها التأکید على أن الاجتهاد الفقهی لم یألُ جهدًا فی الکشف عن الأحکام الشرعیة فی کل ما جدَّ حصوله فی واقع العصر وأحوال الناس، من خلال تجدید حکیم للمناهج الموروثة حیث عَدَمُ الجمودِ على رأی واحد، والأخذ بالاختیار الفقهی من بین أقوال المذاهب الأربعة وعلمائها، والتوسع إلى أقوال مجتهدی الإسلام والمذاهب الأخرى المتبعة لدى الأمة، بل یُطْرَق باب الاجتهاد المباشر من الأدلة الشرعیَّة، خاصة فیما لم یوجد فیه اجتهاد فی  ذلک، أو کان موجودًا ولکنه لا یتناسب مع الحال، وشرط ذلک أن تکون النصوص تحتمل هذا الاستنباط وفق المعاییر والضوابط المعتبرة لدى علم المنهج فی الإسلام، وهو (أصول الفقه).

وتحرص دار الإفتاء المصریة فی مسیرتها العلمیة فی تجدید الفتوى وعلومها وتحقیق ماهیة وسمات الاجتهاد الجماعی من خلاله مجلتها العلمیة -تحرص على احتضان المجهودات العلمیة الفردیة للباحثین فی العلوم الشرعیَّة خاصة أساتذة الجامعات للاعتناء بها ونشرها وإتاحة الاطلاع علیها من قِبل الباحثین والعاملین فی الشأن الدینی والمهتمین به مع مراعاة أن تکون البحوث العلمیة التی یقدمها هؤلاء الباحثون تحتوی- فی أغلبها- على معالجة جیدة للمستجدات والنوازل المعاصرة.

وفی هذا السیاق نطالع خلال هذا العدد الجدید من مجلة دار الإفتاء المصریة ثلاثة أبحاث متمیزة: أولها: " عمل الزوجة وأثرة على العلاقات المالیة بین الزوجین، دراسة فقهیة مقارنة"، حیث تناول البحث موضوعًا مهمًّا وهو بیان کیف نظم الشرع الشریف العلاقات الخِدمیة والمالیة بین الزوجین على أساس متین تستقیم من خلاله حیاتهما الأسریة، ویظهر منه علاقة التکامل بین الزوجین.

وثانیها: "مخالفة الفقیه لأصله وما یترتب علیه من آثار فی الفروع الفقهیة"، وقد تناول البحث مسألة أصولیة لم تحظ بالدراسة والتحریر العلمی بصورة کاشفة، وهی قضیة: "مخالفة الفقیه فی اجتهاده القواعد التی سبق له تأصیلها"، حیث اتخذها الفقهاء عبر مدارسهم ومذاهبهم المختلفة کمسلک استدلالی للتوصل إلى استخراج الأحکام الشرعیَّة فی الوقائع والمستجدات الخارجة عن أشباهها ونظائرها من أجل تحقیق المقاصد الشرعیَّة المرعیة.

وثالثها: "القول المنیر فی أحکام التشهیر"، وفیه بیان للأحکام الشرعیَّة والعقوبات التعزیریة لمرض خطیر شاع بین مختلف الأوساط فی هذا العصر خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعی؛ حیث یتخذ البعض من أعراض الناس نوعا من التسلیة أو الانتقام أو التربح، من غیر مراعاة لما یترتب على تلک الأفعال المذمومة من ذنب وإثم‏ کبیریْن.

زاد الله تعالى من عطاء دار الإفتاء المصریة وسددها فی القیام بواجب الوقت، وبیان الوجه المُشْرِق لأحکام الشریعة الإسلامیَّة، وجزى الله الباحثین خیرًا على مجهودهم وما توصلوا إلیه من نتائج مفیدة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمین،،،