کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي الديار المصرية


لقد اتَّسمت الشریعة الإسلامیَّة بالإحاطة والاستیعاب والشمول لکل مناحی الحیاة، مما أتاح للمکلفین فی کل زمان ومکان قدرة التکیف معها. وهذا الشمول والمؤامة بین ما هو ثابت وما هو متغیر میز الإسلام عن غیره من الأدیان، والفلسفات، والمذاهب.

ومن أبرز ما تتَّصف به الشریعة أنها لم تأتِ لوقت دون وقت، أو لعصرٍ دون عصر، أو لزمن دون زمن، وإنما هی شریعة کل وقت، وکل عصر، وکل زمن حتى یَرِث الله الأرض ومَنْ علیها. ومَنْ یُراجع أحکام الشریعة یجد أنها کاملة لا نقص فیها، ولا قصور، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فقد جاءت نصوص الشریعة، بحیث لا یؤثر على نصوصها مرور الزمن، ولا یقتضی تغییر قواعدها العامة، ونظریاتها الأساسیة.

ومن رحمة الله تبارک وتعالى بهذه الأمة أنه جعل مدد الرسالة المحمدیة ممدودًا موصولًا جیلًا بعد جیل بعد انقضاء حیاة رسول الله صلى الله علیه وسلم وبعد انتقاله إلى الرفیق الأعلى لا ینقطع أبدًا، وذلک بأن جعل العلماء ورثة الأنبیاء، وجعل لهذه الأمة خصیصة اتصال السند بل والتواتر العملی الذی فیه من القوة ما فیه، وفی الحدیث الصحیح عن إِبراهِیم بن عبدِ الرحمنِ العذرِىِّ قال قال رسُولُ اللّهِ –صلى الله علیه وسلم- :« یرِثُ هذا العِلم مِنْ کُلِّ خلفٍ عُدُولُهُ ینفُون عنهُ تأوِیل الجاهِلِین وانتِحال الْمُبطِلِین وتحرِیف الغالِین ».. رواه البیهقی وصححه ابن عبد البر.

فالتشریع الإسلامی تشریع کامل بکل معنى الکلمة، فما من حدث ولا عمل یصدر عن الإنسان، وما من معاملة تقوم بینه وبین غیره إلا وله حکم فیها ولهذا وجدنا التشریع الإسلامی یشمل کافة احوال الفرد والمجتمع فی علاقاته المدنیة والتجاریة، وما یتصل بتبادل الأموال والمنافع و غیر ذلک من الأمور، فما من شعبة من شعب الحیاة ولا أمر من أمورها، إلا وقد تناوله التشریع، وأوضح لنا فیه الخیر من الشر، والطیب من الخبیث، والصحیح من الفاسد، وهو بذلک یعطینا صورة کاملة لنظام الحیاة، وهکذا نرى شمول التشریع الإسلامی الذی یتمثل فی تقدیم عطاء متکامل للإنسان یشمل واقعه المادی والقلبی والعقلی. ولا شک أنَّ هذا کان له أکبر الأثر فی بناء الحضارة الإسلامیة على أسس قویة.

ولقد کانت الشریعة الإسلامیة وما تزال ضابطة لحرکة الحیاة ذلک أن الشریعة ارتبطت بالحیاة، وکان فهم الفقهاء وسیلة تندیل الأحکام المستنبطة منها على أرض الواقع معالجة صنوف الکسائی وأنواع القضایا، فضلا عن الفقه العام الذی مثل وسیلة أخرى لتحصیل الملکات الفقهیة لتلامیذ المدارس العلمیة التی توالت أجیالها عبر الزمان.

والفقه لیس مجرد نظریات میتة فی الکتب فقط، بل هو فقه للحیاة؛ لأن الشریعة التی أنزلها الله عز وجل أنزلها قانوناً للحیاة، فالفقه یواکب الحیاة دائمًا مرتبطاً بحرکتها، یزدان ویزدهر على أیدی القضاة وأیدی المفتین وأیدی المجتهدین الذین یتقون الله عز وجل فی بیان الأحکام ویتوخون مقاصد الشرع الحنیف، ولذلک کان الفقهاء على مرَّ العصور یقومون بواجب وقتهم وذلک من خلال تنزیل الأحکام الشرعیة على الوقائع المختلفة فی عصورهم، وهذا أساسه أن الفقه الإسلامی هو فی حقیقة الأمر فقه للحکم الشرعی وفقه للتطبیق، فالفقهاء لم یکتفوا بالتشبُّع بالفروع الفقهیة بل استطاعوا أن یُنزلوا هذه الفروع على الحوادث المستجدة فی واقعهم المعاش بعد فهم هذا الواقع وإدراکه الإدراک السلیم، وهذا لیس بأمر مبتدع، بل هو أمر ورثه العلماء عن الصحابة رضی الله عنهم فها هو سیدنا علی رضی الله عنه یضرب لنا مثلًا فی کیفیة تطبیق الحکم على الحادثة المستجدة فی الواقعة المسماة بـ «زبیة الأسد»()، ولقد حکم علی رضی الله عنه فی تلک النازلة بفقه عجیب دقیق، فقد قام بتنزیل الحکم على النازلة التی ما ألفها الصحابة من قبل، بکل حس فقهی راق، وقد ورث ذلک التابعون ومن بعدهم على مدى العصور الإسلامیة.

 

 

 

 

ومن أراد أن یتلمَّس کیف قام الفقهاء على مرِّ العصور بواجب وقتهم فی إعطاء کل حادثة مستجدة حکمها المناسب لها فلیقرأ کتب النوازل وکتب الواقعات وکتب الفتاوى، تلک الثروة الفقهیة العظیمة التی خلفها لنا الأجداد العظام رضی الله عنهم، عندما نقرؤها قراءة متأنیة دقیقة نجد أنماطا وأحوال حیاة کاملة حیة دقیقة بین دفتی تلک الکتب، نتأمل تلک المسائل والنوازل والواقعات التی احتوتها المراجع العظیمة فتتجلَّى أمامنا الحیاة التی عاشها الفقهاء بکل نواحیها السیاسیة والاقتصادیة، والاجتماعیة، والثقافیة ... بل حتى الجغرافیة، بل نجد فیها تصویرًا لحالة العالم الإسلامی من الناحیة الدینیة والسیاسیة والاجتماعیة، کل ذلک مع تنزیل للأحکام الفقهیة على هذه النوازل وتلک الواقعات من غیر أن یفوتهم شیء، قائمین بواجب وقتهم فی تلک العصور المختلفة. وهم إذ یقومون بهذا الواجب یرسِّخون کیف أنَّ الشریعة صالحة لکل زمان ومکان، وکیف أنها ارتبطت بالحیاة، وواکبت المتغیرات، حتى أثمرت حضارة راسخة لا زلنا نستظلُّ بظلِّها إلى الیوم، وهذه لیست مجرد رؤیة للفقهاء ولا توجها ذاتیا لهم، بل هی خصیصة من خصائص الشریعة المطهرة.

ونطالع فی هذا العدد الجدید من مجلة دار الإفتاء المصریة ثلاثة أبحاث جاءت على النحو التالی:

أولها: إلزام المشتری بعدم التصرف فی العقار (دراسة مقارنة بین المذاهب الفقهیة).

والثانی: الموجب للقضاء عند الأصولیین وأثره فی الفروع الفقهیة.

والثالث: صیغ التعاقد لنظام اقتسام الوقت (Time share) دراسة فقهیَّة مقارنة.

نسأل الله تعالى أن ینفع بهذا العدد کُتَّابه وقاریئه من السادة الباحثین والعلماء وکل من ساهم فیه إنه ولی ذلک والقادر علیه.