کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

عضو هيئة کبار العلماء بالأزهر الشريف


مقدمة العدد

_حول_

ضوابط طلب العلم ونشره علمیًا وعملیًّا لبناء المجتمعات

لا شک أن الإسلام قد أعلى من قیمة العلم؛ بحیث افتتح القرآن الکریم رسالته على نبینا الکریم محمد صلى الله علیه وسلم بالدعوة إلى العلم فی قوله تعالى: {اقرأ باسم ربک الذی خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربک الأکرم * الذی علم بالقلم *علم الإنسان مالم یعلم}؛ ثم تتابع نزول الآیات الکریمة الدالة على أن هذا الدین هو دین العلم، الذی یحث أهله على طلب العلم، وینفرهم من الجهل، وذلک فی قوله تعالى (هل یستوی الذین یعلمون والذین لا یعلمون) [الزمر: 9] وقوله تعالى (یرفع الله الذین آمنوا منکم والذین أوتوا العلم درجات) [المجادلة: 11].

وبهذا الحرص على التعلم انزاحت صفة الأمیة عن أمة الإسلام؛ فأضحت أمة العلم والنور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِّنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِن کَانُوا مِن قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُّبِینٍ}[الجمعة: 2]؛ کما أن رسول الله صلى الله علیه وسلم قد حفَّزَ الأمةَ على طلب العلم فی قوله: "طلب العلم فریضة على کل مسلم"، وبهذه الفریضة یصبح الانتساب للعلم شرفًا یدعیه کل أحد، فالإمام علی کرم الله وجهه قال: "کفى بالعلم شرفًا أن یدعیه من لا یحسنه، ویفرح به إذا نسب إلیه، وکفى بالجهل ذمًّا أن یتبرأ منه من هو فیه".

ولم یکتفِ الإسلام بأن أعلى من مکانة العلم فحسب؛ بل أعلى من مکانة حامله، فجعل للعلماء مکانة عظیمة فی الإسلام لا تضاهیها مکانة فقال تعالى: {إِنَّمَا یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28]، فهؤلاء العلماء قد أورثهم العلم - دون غیرهم - خشیة أثنى الله تعالى علیها، ووهبهم إخلاصًا وفهمًا وتدبرًا وهمة عالیة وأمانة، وأکسبهم صبرًا وتلطفًا فی الحدیث وحسن إصغاء، وتواضعًا وتعاونًا وأدبًا جمًّا زادهم فضلاً وبهاءً.

وعلى طالب العلم أن یتحلى بالأخلاق الرفیعة والأدب الجم، فمن آداب طلب العلم وأولها هو الإخلاص فی طلب العلم، والتجرد عن الهوى، وأن یکون تعلم العلم لنفع النفس والناس لا لطلب المباهاة وتصدر المجالس وطلب ثناء الناس أو لیقال فلان عالم، فقد حذر النبی صلى الله علیه وسلم من ذلک فی الحدیث الذی رواه أبو هریرة رضی الله عنه من أن رسول الله صلى الله علیه وسلم قال: "إن أول الناس یقضى یوم القیامة علیه..."، وذکر ثلاثة منهم "ورجل تعلَّم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتی به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فیها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فیک القرآن، قال: کذبت، ولکنک تعلمت العلم لیقال: عالم، وقرأت القرآن لیقال: هو قارئ، فقد قیل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقی فی النار".

وفی العصور المتقدمة حرصوا على التربیة فقدّموها على التعلیم، فقالوا وزارة التربیة والتعلیم؛ نظرًا لما للتربیة من أهمیة أولاً، ولبیان أن التعلیم هو عملیة متکاملة تجمع بین التربیة والتعلیم فی المقام الثانی، بحیث یستحیل أن تؤدی إحداهما وتهمل الأخرى، قال عبد الله بن المبارک: "کانوا یطلبون الأدبَ ثم العلم"، وقال الإمام مالک رحمه الله: "کانت أمی تعممنی، وتقول لی: اذهب إلى ربیعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، إذًا فطالب العلم لا بد أن یتحلى بالأدب، یتأدب مع أساتذته، ومع مدرسته وجامعته، ویعلم أنه صاحب رسالة، ولدیه غایة سامیة یهدف لتحقیقها وأن یحترم وقته لا ینفقه فی غیر العلم، قال الحسین بن علی رضی الله عنهما لابنه: "یا بنی إذا جالست العلماء فکن على أن تسمع أحرص منک على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع کما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حدیثًا وإن طال حتى یمسک".

واصطفاء الأقران الصالحین الیوم مطلب مهم لطالب العلم؛ لإعانته على تحصیل العلم، والحفاظ على جهوده من أن تشتت من طائل من ورائها، لأن الرفقة غیر الأمینة ربنا تجر علیه من المشاکل والمتاعب ما لا یطیق، قال ابن جماعة فی تذکرة السامع حاثًّا طالب العلم على اختیار الصاحب: "احرص على اتخاذ صاحب صالح فی حاله، کثیر الاشتغال بالعلم، جید الطبع، یعینک على تحصیل مقاصدک، ویساعدک على تکمیل فوائدک، وینشطک على زیادة الطلب، ویخفف عنک الضجر والنصب، موثوقًا بدینه وأمانته ومکارم أخلاقه، ویکون ناصحًا لله غیر لاعبٍ ولا لاهٍ".

وعلى طالب العلم أن یعلم أن اکتسابه للعلم لیس غرضه التزین به، إنما للانتفاع به والعمل بما جاء فیه، لئلا یکون ممن قال فیهم الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا کَمَثَلِ الْحِمَارِ یَحْمِلُ أَسْفَارًا}[الجمعة: 6]، وقال النبی صلى الله علیه وسلم: "لا تزول قدم ابن آدم یوم القیامة من عند ربه حتى یُسأل عن خمس، ومنها: وماذا عمل فیما عَلِم".

وعلى طالب العلم المداومة والاستمرار فی طالب العمل وتحصیله، ولا یحصر نفسه فی منطقة معینة أو یتوقف عند حد معین أو شهادة علمیة معینة، بل علیه مواصلة التعلم والتحصیل، لأن الأمة بحاجة ماسة إلى أبنائها من العلماء لکی ینهضوا بها، ویساهموا فی بنائها، ولشدة حرص السلف الصالح کانوا یشغلون أنفسهم بالعلم وتحصیله إلى آخر یوم فی حیاتهم، ومما قاله الإمام أحمد رحمه الله: "إنما أطلب العلم إلى أن أدخل القبر".

فی ظل موجة من العنف والتطرف تشتد حاجة الأوطان إلى عقول أبنائها بجانب سواعدهم، فلقد خلقت العقول لتفکر، والسواعد لتبنی، فما أجمل أن تعین العقولُ السواعد بالعلم النافع لکی تعمر الأرض، وتبنی الأمة، وتنمی الأوطان، خضوعا لقوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَکُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَکُمۡ فِیهَا) [هود: 61].

ونطالع فی هذا العدد من مجلة دار الإفتاء المصریة العلمیة الأکادیمیة ثلاثة أبحاث

بحث بعنوان: مَاْ یَقَعُ بِهِ البَیَانُ "دِرَاسَةٌ أُصُولِیَّةٌ تَطْبِیقِیَّةٌ"

وبحث بعنوان: شبهات حول حدیث (بُعِثْتُ بِالسَّیْفِ) وحدیث ( لَقَدْ جِئْتُکُمْ بِالذَّبْحِ ) والرد علیهما

وبحث بعنوان: حکم القاضی ومـدى نفـاذه فی الفقه الإسلامی

ولا شک أن مثل هذه البحوث العلمیة تعالج قضایا مهمة یحتاج إلیها الناس فی حیاتهم العلمیة والعملیة، وتبرز المنهجیة العلمیة الإسلامیة فی استنباط الأحکام الشرعیة لخدمة العباد والبلاد.

هذا: وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمین،،،