کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

أستاذ الشريعة الإسلامية وکيل کلية دار العلوم لشئون التعليم والطلاب


تقدیم

مما لا شک فیه أن الأحکام القضائیة کانت أحدَ أسباب تطوُّر الفقه الإسلامی؛ ذلک أن نظر القاضی إلى الحکم الشرعی یختلف عن نظر کلٍّ من المفتی والفقیه.

ففی حین ینظر الفقیه أو المفتی إلى الحکم الشرعی طبقًا لمنظومة الأحکام الشرعیة الخمسة: من الوجوب والاستحباب والإباحة والکراهة والتحریم، فإن القاضی ینظر إلى الحکم الشرعی من الناحیة العملیة وما یترتب على ذلک من نتائج تصل بالحقوق والواجبات بین الأفراد.

ومن أوضح الأمثلة الدالة على ما سبق:

ما حکاه السرخسی عن خلافٍ بین علماء الأحناف فی حکم تأخیر أداء الزکاة عن وقتها:

فنقل عن الکرخی القول بأن من أخَّر أداء الزکاة عن وقتها یکون آثما بتأخُّر الأداء بعد الوجوب.

وروی عن محمد بن الحسن أنه قال: من أخَّر أداء الزکاة، من غیر عذر، لم تُقبَل شهادته.

ونقل عن البلخی وأبی یوسف أنهما قالا: یسعه التأخیر فی أداء الزکاة، لأن الأمر مطلق عن الوقت، وقد اختار السرخسی هذا القول.

وهکذا قدَّم فقهاء الأحناف ثلاثة أحکام:

الأول: حکم دینی قائم على تأثیم من أخَّر أداء الواجب، وهذا ما یتفق مع تعریف علماء الأصول للواجب بأنه یُثاب فاعله ویأثم تارکه.

والثانی: حکم قانونی، یقوم على معاقبة مَن أخَّر الأداء بغیر عذر بهذه العقوبة التعزیریة، وهو رد شهادته، حتى یکون ذلک رادعًا له، فلا یعود إلى تأخیر أوانها مرة أخرى.

والثالث: حکم دینی قام على أن مَن فعل ذلک فلا شیء علیه؛ لأن الأمر بالزکاة جاء مطلقًا عن الوقت بخلاف الصلاة والصیام والحج، ومِن ثَمَّ یستطیع من أخَّر أداء الزکاة أن یؤدیها فی أی وقت.

وهکذا اختلف فقهاء الأحناف فی الأحکام المتصلة بمن أخَّر أداء الزکاة تبعًا لاختلاف النظرة إلى المسألة من ناحیة تقدیر العقوبة المستحقة فی هذه الحالة، وهو أمر یکشف عن طبیعة التفکیر الفقهی وکیف یواجه المواقف المختلفة بما یناسبها من الأحکام، لتحقیق المصلحة المشروعة.

فإذا قویت حالة التدیُّن عند الناس فإن الفقه یکتفی باستخدام الوازع الدینی والأخلاقی، أما إذا ضعُفت حالة التدین، فإن الفقه ینتقل إلى دائرة الإلزام أو العقاب القانونی لحمل الناس على أداء الحقوق والالتزامات، وهذا ما أخذ به قانون الأحوال الشخصیة فی نقل "متعة المطلقات" من دائرة الالتزام الدینی والأخلاقی التی وردت فی قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِینَ} [البقرة: 236]، وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِینَ} [البقرة: 241].

فقد أثبت المتعة بقوله: {حَقًّا} فی الآیتین، لکن هذا الحق صار حقًّا فی دائرة {الْمُحْسِنِینَ} و{الْمُتَّقِینَ} وهذا من شأنه أن یُضیِّع حقوق النساء إذا تُرِک الأمر لضمائر الأفراد وإحسانهم وتقواهم.

ومن ثَمَّ فقد انتهى الفقه المعاصر إلى ضرورة إلزام المطلِّق بنفقة المتعة، بعد أن تراخت المروءة وانعدمت فی هذا الزمن، لا سیما بین الأزواج إذا انقطع حبل المودة بینهم وأصبحت المطلقة فی حاجة إلى معونة أکثر من نفقة العدة تُعینها من الناحیة المادیة على نتائج الطلاق؛ فجاء نص المادة 18 مکرر على النحو الآتی:

(الزوجة المدخول بها، فی زواج صحیح، إذا طلقها زوجها بدون رضاها ولا بسبب من قِبَلها، تستحق فوق نفقة عدتها متعةً تُقدَّر بنفقة سنتین على الأقل، وبمراعاة حال المطلِّق یُسرًا وعُسرًا وظروف الطلاق ومدة الزوجیة، ویجوز أن یُرخَّص للمطلِّق فی سداد هذه المتعة على أقساط).

وبهذا نقل الفقه المعاصر المسألة من دائرة الالتزام الأخلاقی والدینی إلى دائرة الإلزام القانونی، بعد أن تبیَّن له أن إبقاء المسألة فی الدائرة الأولى یترتب علیه ضرر وفساد کبیر، جاءت الشریعة من أجل منعه وتحقیق مصلحة الناس.

 ونطالع فی هذا العدد من مجلة دار الإفتاء المصریة ثلاثة أبحاث فی إطار دراسة تطویر الفقه الإسلامی:

أولها: "النهی عند الأصولیین- دراسة أصولیة تطبیقیة".

وثانیها: "المماطلة وعقوبتُها فی الفقه الإسلامی".

وثالثها: "أصول المفطرات وعللها فی المذاهب الأربعة".

والأمل معهود على أن تکون هذه البحوث فی سیاق رغبة حقیقیة فی تقدیم الفقه الإسلامی فی ثوب معاصر ومعالجة معاصرة تحقق مقاصد الشریعة وتقدم للمشروع المعاصر حلولا عملیة قانونیة وأخلاقیة للمشکلات التی جدت فی واقعنا المعاصر.

ونأمل أن یتلقى القراء هذا العدد بالقبول والتقدیر.