نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول
المؤلف
مفتي جمهورية مصر العربية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبی بعده، سیدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فمن سمات شریعة الإسلام الثابتة أنها شریعة حیة متجددة، کاملة لا نقصان فیها؛ فیها حکم کلِّ فعل یَصْدُر عن المُکَلَّف– منطوقًا أو مفهومًا - ، سواء کان المکلف یتصرف لنفسه أو لغیره، وسواء کان الغیر فردًا أو شخصیة اعتباریة یقوم المکلف بالتصرف لحسابها نیابة عن مالکیها، وسواء کان المالکون منحصرین، کما فی الشرکات وأمثالها، أو کانوا غیر منحصرین کما فی الشخصیة الاعتباریة للدولة وما ینبثق عنها من مؤسسات وهیئات.
ولئن کانت الحوادث متتالیة على مر الأیام وتعاقب العصور وفی مختلف الأماکن، ومنها ما یکون قدیمًا جدیدًا متکرر الوقوع، ومنها ما یکون غیر مسبوق فی عهد الناس ولم یألفوه بشکل من الأشکال، بل لو عُرِض علیهم قدیمًا لظنوه ضربًا من الخیال الذی لا یکاد أن یکون فی مستقبل الأیام، وحتى مع النظر العقلی الافتراضی التقدیری لم یکن یخطر على بال أحد من الفقهاء أو غیرهم حدوث شیء منها؛ مع ذلک کله فإن نصوص الوحی المحصورة صالحة -مع تناهیها-للدلالة على الأحکام الشرعیة لکل حادثة وقضیة.
والناظر فی نتاج علماء المسلمین وتراثهم یشهد بأن النظر الفقهی لم یألُ جهدًا فی البحث عن حکم الشرع الشریف فی کل ما جَدَّ حصولُه فی واقع الناس، وذلک وفق القواعد العامة الموضوعة لکیفیة استنباط الحکم الشرعی من النص الشریف أو ما شهد له النص بالاعتبار من الأدلة.
ولم یتوقف هذا النتاج العظیم عند عصر من العصور بل هو مستمر العطاء حتى یوم الناس هذا، ولیس أدل على ذلک من الفتاوى الصادرة بصورة یومیة عن هیئات ومؤسسات الإفتاء فی العالم الإسلامی، خاصة دار الإفتاء المصریة، وکذلک البحوث المتکاثرة المقدمة بصورة دوریة ومستمرة إلى المجامع العلمیة کهیئة کبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامیة بالأزهر الشریف ومجامع الفقه الإسلامی الدولیة، والمؤتمرات والندوات، والمجلات المتخصصة، بل یتعدى الأمر کذلک إلى المستوى الفردی، فإن الباحثین المعاصرین فی التخصص الشرعی أو ما له صلة به، یبذلون جهدًا مشکورًا فی سبیل معالجة ما یطرأ فی المجتمعات من مسائل جدیدة، وتقدیم حلول شرعیة لها وفق الضوابط الشرعیَّة ومقتضیات الناس والعصر.
ولا یخفى أن فی ذلک استنفارا لهمم أهل العصر من العلماء والباحثین لإدراک الواقع بعمق مع ملاحظة الموازنات والمآلات ودراسات المستقبل، وهذا راجع إلى أن أغلب المستجدات المعاصرة تتسم بالتعقید واشتراک أکثر من عنصر فی تکوینها، بل منها ما هو نتاج تطور تکنولوجی أو تطور طبی، مما یلزم له من إحاطة تامة بکل عناصر المسألة ومکوناتها.
وفی هذا السیاق تنتقی دار الإفتاء المصریة الأبحاث الفقهیة والأصولیة المتمیزة؛ سعیًا إلى نشرها بعد تحکیمها، ونطالع فی هذا العدد الجدید من مجلة دار الإفتاء المصریة ثلاثة أبحاث متمیزة: أولها : بحث بعنوان: "عمرُ رضی الله عنه وفقه الموازنات"، حیث تناول البحث موضوعًا مهمًّا من موضوعات فقه السیاسة الشرعیَّة، مبینًا تعریفه اللغوی والاصطلاحی، ومشروعیة اعتباره والحاجة إلیه، وکیفیة إعماله وفق ضوابط التعارض والترجیح المقررة، مع إبراز سمات الملک الفقهیة لأمیر المؤمنین عمر الفاروق رضی الله عنه من خلال استعراض نماذج عملیة تساهم فی تجلیة فقه الموازنات عنده رضی الله عنه.
والثانی: بعنوان: "وقف الأوراق المالیة (الأسهم والسندات) وأحکامه فی الفقه الإسلامی، دراسة فقهیة مقارنة"، وفیه بیان لجملة من المسائل المتعلقة بأحکام الوقف وأحکام الأسهم والسندات، وهی وقفة فقهیة للوصول إلى ما ترجح لدى الباحث من آراء العلماء والهیئات فی هذه المسألة التی یکثُر السؤال عنها.
والثالث: بعنوان: "إشکالیة تعزیر المتهم بین الشریعة والقانون"، وقد تناول أربع مسائل مثلت کل واحدة منهن مبحثا خاصًّا، وهی: تعزیر المتهم لإجباره على الاعتراف، ومدى شرعیة هذا الاعتراف حالة صدوره، وحبس المتهم احتیاطیًّا، وأخذ الکفالة المالیة من المتهم بغرض الإفراج المؤقت عنه، وفیه إبراز لتکریم الإنسان کمبدأ أصیل من مبادئ الشرع والقانون.
ولا ریب أن ذلک یؤکد على صلاحیة الفقه الإسلامی وقدرته على استیعاب الحوادث الطارئة ومواجهة المسائل الجدیدة وإعطائها حکمًا شرعیًّا بما یتفق والقواعد العامة والمقاصد الکلیة وأصول الاجتهاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمین،،،