کلمة العدد

المؤلف

المستشار الأکاديمي لمفتي الديار المصرية وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية


الحمد لله ربِّ العالمین، والصلاة والسلام على أشرف المرسلین سیدنا محمد وعلى آله وصحبه وتابعیهم بإحسان إلى یوم الدین، وبعد:

فإن الفقه الإسلامی صالح لمواکبة مستجدات الحیاة الإنسانیة جملة وتفصیلا؛ نظرًا لتعدد مصادر استمداده وثرائها، وما یتمتع به الفقیه من الحریة الفکریة المنضبطة وفق منهج وضوابط تعصم مراعاتها من الوقوع فی الزیغ والانحراف.

 وفی ذلک دلالات حضاریة عمیقة الجذور، تتجلى إحداها فی الحریة الواسعة التی یتمتع بها الفقهاء؛ حیث یفسحون المجال أمام العقل للدراسة والموازنة والاستنباط، ودفع الحرج عن الأمة بالتوسعة علیها فی تعدد المذاهب أو تعدد الآراء داخل المذهب الواحد، ولذلک یُعَدُّ الفقه الإسلامی ثروة عظیمة صالحة للانتفاع بها فی کل عصر ومصر.

ومما یؤکد ذلک ما شهدت به بعض المجامع العلمیة لغیر المسلمین، فضلا عن آحادهم بتفرد الفقه الإسلامی فی کثیر من أبوابه، وبالعبقریة الفذة التی تحلَّى بها فقهاء الإسلام الأکابر عبر العصور، ومن ذلک ما قرره المؤتمر الدولی المقارن فی دورته الأولى بلاهای سنة 1932م من اعتبار الشریعة الإسلامیة مصدرًا من مصادر التشریع الدولی العام، وما قرره مؤتمر المحامین الدولی سنة 1948م من ضرورة الاستفادة من التشریع الإسلامی لما فیه من حیویة ومرونة.

ولقد کان الاجتهاد الدعامة الرئیسة التی حالت بین الفقه الإسلامی وبین قیود المحاکاة والتقلید الأعمى والخمول الفکری وتقدیس الأشخاص، فهو السـبیل الأصیل -إذا روعیت فیه القواعد والضوابط العلمیة- للنظر والاعتبار ومواجهة المستجدات والنوازل بأحکام شرعیة عمیقة فی فهم الواقع بعوالمه المتعددة، مُخَرَّجة على الأدلة الشرعیة والمقاصد الکلیة، مراعیة حال الناس والعصر، ومن ثَمَّ فلا مکان فیه لآراء الجامدین والجاحدین على السواء.

ومن خلال الاجتهاد شهد الفقه الإسلامی بعثًا جدیدًا فی کل عصر بما یوافق مقتضیات التجدید فیه، الذی یرنو إلى توضیح حقیقته وتنقیة صورته، وقد بشرنا سیدنا محمد ﷺ بأن الله تعالى یبعث فی هذه الأمة على رأس کل مائة سنة مَن یجدد لها أمر دینها؛ أسوة بسنة الله تعالى فی الأمم السالفة{لِئَلَّا یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ} [النساء: 165]؛ خاصة مع الدعوات الإصلاحیة التی تنادی باتباع مناهج الفقهاء دون مسائلهم المرتبطة بزمانهم، وهو ما یدعو إلى إبراز هذا الفقه فی صورة جدیدة تلائم الزمن وتسایره.

ومن مظاهر ذلک فی العصر الحاضر: إنشاء المجامع العلمیة الکبرى التی تهدف إلى تحقیق الاجتهاد الجماعی فیما یستجد من أحوال الأمة، کما ألفت موسوعات فقهیة: ورقیة وإلکترونیة، وانطلقت مواقع ومنتدیات فقهیة على الشبکة العنکبوتیة العالمیة.

وفی القضاء: اتسعت دائرة الالتزام بمذهب معین إلى قانون مقتبس من مجموع المذاهب الإسلامیة، أُخذ بعین الاعتبار عند إعداده ألا یُرَجِّح مذهبًا على مذهب إلا بما فیه من یسر وملاءمة لأحوال الناس مع الاندراج تحت مقاصد الشرع.

وفی التدریس: صارت المذاهب کلها تدرس على السواء، وأصبح الفقه المقارن من أهم ما یدرس فی کلیات الشریعة على مختلف درجات التخرج فیها، بل انتقلت دراسة الفقه الإسلامی فی کلیات الحقوق من دراسة مذهب معین إلى دراسة مقارنة فی کثیر من المسائل، کما أنشئت فیها أقسام تحمل اسم "قسم الشریعة الإسلامیة" تختص بشأن الفقه الإسلامی وأصوله، والدراسات المقارنة بینه وبین التشریعات الأخرى.

وکذلک ساهمت الدراسات العلیا (الماجستیر والدکتوراه) فی الکلیات والمعاهد والأقسام الشرعیة بشکل کبیر فی النهوض بالفقه الإسلامی؛ مما أنتج کثیرًا من الرسائل العلمیة فی مجال إخراج وتحقیق کتب التراث، ومجال البحث الموضوعی المقارن بین المذاهب الفقهیة المختلفة.

وأما حالة التألیف: فقد ولجت مجالات لم تکن من قبل؛ حیث یحاول المشتغلون بالفقه الدخول فی الحیاة العملیة یتلمسون السبل للوصول إلى الأحکام الشرعیة لحوادث الناس المتغیرة وبصورة کبیرة فی هذا الزمان.

وفی هذا السیاق نقرأ فی هذا العدد من مجلة دار الإفتاء المصریة بحث "الحَجر السیاسی وآثاره الفقهیة، دراسة فی  الفقه السیاسی الإسلامی"، حیث تناول البحث موضوعًا مهمًّا من موضوعات السیاسة الشرعیة، مبینًا تعریفه اللغوی والاصطلاحی، وحکمه الشرعی، وأهمیة تطبیقه على الناس والمجتمع والدولة، مع بیان أسبابه وشروطه وطرائق إثباته أو رفعه والجهات المنوطة بتطبیقه.

کما نطالع بحثًا آخر بعنوان "الریاض النضرة فی حکم تکرار العمرة"، وقد اشتمل البحث على تعریف العمرة لغة وشرعًا، والاستعداد لها، وکیفیة أدائها، وحکم تکرارها، وهی وقفة فقهیة للوصول إلى ما ترجح لدى الباحث من آراء العلماء فی هذه المسألة التی یکثُر السؤال عنها والاختلاف فیها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمین