کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

أستاذ الشريعة الإسلامية بکلية الحقوق جامعة الإسکندرية


بین الاجتهاد والتجدید

رؤیة للمفاهیم

 

واقع المسلمین الیوم یحتاج إلى إعادة النظر فی عدد من المفاهیم وفی مقدمتها مفهومیّ الاجتهاد والتجدید، وهی مراجعة تفرضها حال الأمة التی تعانی من أزمات کثیرة، من بینها أزمة العقل الفقهی وهی ذات شقین:-

الأول: أزمة فی المنهج الذی یُعْلى من التقلید فی مواجهة التجدید

والثانی: أزمة فی الواقع الذی یکاد یتفلت من أحکام الشریعة بدعاوی باطلة مثل جمود التشریع، وعدم قدرته على الاستجابة لعالم متغیر سبیل تقویمه الجمع بین الأصالة والمعاصرة.

ولست من أنصار الثنائیات فی المجال الفقهی، لأن الأصالة هی المعاصرة، ولا متغیر إلا ویتحرک فی إطار الثابت، ولا حیاة بغیر دین لأن الدین منهج متکامل، إن تجرید المفاهیم الثقافیة والفقهیة، وتعبئتها بأحداث لیست جزءا من تاریخها، وبأفکار لم تنبت فی عالمها هو لون من التأویل المستکره – الذی أشار إلیه "الراغب الأصفهانی" فی مقدمته تفسیره – لأنه یرغم النص على النطق بما لیس فیه.

والاجتهاد على نوعین:- اجتهاد فی الاستنباط، واجتهاد فی تحقیق المناط

1- النوع الأول اجتهاد استنباط: ویستقل به الفقیه بعد وصوله إلى رتبة عالیة من المعرفة بالأدلة الشرعیة، یقدر بها على تحقیق الحجة بالحکم الشرعی، وهو اجتهاد یمنع التقلید، یقول الآمدی: "إن المکلف إذا کان قد حصلت له أهلیة الاجتهاد بحقها فی مسألة من المسائل فإذا اجتهد فیها وأداه اجتهاده إلى حکم فیها فقد اتفق الکل على أنه لا یجوز له تقلید غیره من المجتهدین خلاف ما أوجبه ظنه" ... وغیر الفقیه وإن کان محصلا لبعض العلوم المعتبرة فی الاجتهاد، یلزمه قول مجتهد المجتهدین، والأخذ بفتواه عند المحققین من الأصولیین.

2- النوع الثانی اجتهاد تحقیق المناط: وهذا یدخل فیه جمیع أهل الاختصاص کل فی مجاله لأنهم لا یقومون باکتشاف الحکم بل بالکشف عن محله طبقا لتنظیر الحکم الوضعی فی السببیة والشرطیة والمانعیة، وهذه الوظیفة تعتمد الأعلمیة" فی الدنیا ولیس فقط "الأعلمیة" فی الدین.

واجتهاد الاستنباط اجتهاد أولوی، واجتهاد تحقیق المناط اجتهاد ثانوی، فی اجتهاد الاستنباط لا بد من التفرقة بین الاجتهاد باعتباره ملکة، والاجتهاد باعتباره حرکة، فاجتهاد الملکة اجتهاد بالقوة – أی بالتکوین العلمی – لا یقبل التبعیض، أما اجتهاد الحرکة فهو جهد علمی مرکب یقبل التجزئة، لأنه اجتهاد بالفعل تحکمة النازلة بمقوماتها والوقائع بضروراتها.

أما اجتهاد تحقیق المناط فهو اجتهاد فی الأحوال والظروف تحکمه دوائر المعرفة المتصلة بالواقع والمرتبطة بالأهداف، والعلم الإنسانی فی کل مجالاته لا یعرف احتکار المعرفة.

اجتهاد الاستنباط یتعامل مع النص المتعالی وهو خطاب عام یتجاوز الزمان والمکان، وصلته بالواقع مصدرها عقل المجتهد. ومن هنا جاءت شروط الاجتهاد تتغیا الوصول إلى عقل کلی یستطیع التفاعل مع الخطاب الکلی.

وفی ضوء هذه المنهجیة أفصل بین الاجتهاد والتجدید

الاجتهاد ویکون فی الأحکام، والتجدید ویکون فی النظم ونفصل ذلک فیما یلی:-

1- الاجتهاد: موضوع أصولی، التکوین المعرفی فیه قائم على استیعاب المصادر الشرعیة – أصولا وفقهًا، کمًا وکیفًا – والأحکام فی الخطاب الشرعی منها القطعی والظنی، والقطعی ثبوتًا ودلالة على المجتهد استقباله وتنزیله کما تقتضی قواعد اللغة وظواهر النصوص وغایات الأحکام، والظنی ثبوتًا أو دلالة أو هما معًا على المجتهد "استفراغ الواسع فی طلب الظن بشیء من الأحکام الشرعیة على وجه یحس من النفس العجز عن المزید فیه" وهذا تعریف بالوظائف یرتبط بالوسع العقلی، أما التنزیل فإنه یرتبط بالوسع العملی، والمجتهد یستوعب هذه الوظائف المرکبة ا لتی هی من صمیم العملیة الاجتهادیة

فالاجتهاد إذن عملیة أصولیة بالدرجة الأولى موضوعها الأحکام الشرعیة فی تجریدها الذهنی وفی صورته العملیة، وهی مهمة لا یقوم بها إلا الفقیه الذی بلغ درجة الاجتهاد، ولا تتم إلا من خلاله.

2- التجدید: وهو فی الأصل مبحث علمی یرتبط بالنظم، فالقضاء على سبیل المثال أحکام ونظام الأحکام یستقل بها الفقیه، والنظام یقوم به أهل التدبیر حسب مقتضیات الزمان والمکان فهو مصالح وسیاسات شرعیة فقد یکون القضاء موزع الاختصاص، وقد یکون موحد الاختصاص، وقد یکون من درجة واحدة، وقد یکون متعدد الدرجات المهم أنه یحسم النزاع وفقًا للحکم الشرعی، ویحقق العدالة فی سیاقها الواقعی المقدور، الأحکام تتعامل مع الأدلة، والأنظمة تتفاعل مع الخبرات البشریة، الأحکام: أمر ونهی، والأنظمة – حاجات ومصالح.

وحدیث رسول الله صلى الله علیه وسلم: "إن الله یبعث على رأس کل مائة سنة من یجدد لها أمر دینها" یقصد به الدین کنظام، ولیس الدین کأحکام قطعیة، فقد یضعف الدین فی النفوس، رغم ارتیاد الناس للمساجد، ورغم أداء الصیام والزکاة والحج، إن علاقة الإنسان بخالقه قد یصیبها الفتور أو التراجع، رغم أنه یؤدی العبادات فی ظواهرها ولا یعمل بجد لتحقیق غایاتها ومقاصدها.

فالزمن یؤثر على نظام الدین فیحتاج إلى تجدید، ویؤثر على وظائف الأحکام – وهی جزء من النظام – فتحتاج إلى تفعیل وترشید.

خلاصة القول عندی أن الاجتهاد یتعلق بالأحکام ولا یمارسه إلا الفقیه المجتهد وأن التجدید یتعلق بالأنظمة ویمارسه کل خبیر بعلومها وأدواتها.

ولا یعنی الفصل بین التجدید والاجتهاد أنهما یتحرکان فی عالمین منفصلین، بل هما معًا فی ارتباط وثیق، فالاجتهاد المعاصر فی حاجة إلى تجدید الأنظمة الفکریة والاجتماعیة والثقافیة، وعن طریق هذا التجدید ینطلق الاجتهاد فی مجالات السیاسة والاجتماع والاقتصاد، وفی العلاقات الدولیة والإقلیمیة والعالمیة، لأن الأبعاد التشریعیة لآیات الأحکام تستوعب الفرد والمجتمع والأمة والعالم، ویقضی التجدید التوسعة فی مجالات الاجتهاد لتستوعب الأنظمة الجدیدة، والأوضاع الحضاریة غیر المسبوقة، إن أصول الفقه -وهو منطق الفقیه – یحتل فی هذا السیاق أهمیة خاصة تستدعی تحریره من الرؤى الفلسفیة التی علقت به، والتی جعلته فی بعض الدراسات المعاصرة یتعامل مع الکتاب والسنة بمنهج مختلف فی طبیعته عن الکتاب والسنة، ویضیق عن استیعاب الأبعاد التشریعیة للکتاب والسنة.

إن تجدید الأنظمة یعنی أن فقه الأمة أصبح یتقدم الصفوف، وأن الحاجة إلى تقویمه ورصده والانفتاح علیه أصبحت ملحة، وأن المغایرة بین الاجتهاد والتجدید غایتها الفصل بین الاجتهاد الذی هو بذل الوسع والطاقة لاستنباط الأحکام وتنزیل قوانین الشرع، وبین التجدید الذی یستهدف تفعیل الأنظمة – أی التجارب البشریة – التی یتسع بها نطاق النص، لأن متغیرات الواقع لیست دافعة للنص أو رافعة لحکمه، ولکنها استنطاق لمقاصده وغایاته، وتحقیق لمناطه ووصف لمحله، فالعلاقة بین الاجتهاد والتجدید – رغم اختلافهما فی المفهوم – هی علاقة عضویة، لها ارتباط وثیق بالأبعاد التشریعیة فی الکتاب والسنة عندما تتحرک فی دنیا الناس، إن البناء المتکامل للشریعة هو الذی یجعل الأحکام الجزئیة التفصیلیة تعمل فی دائرة منظومة محکمه، فإطلاق النصوص القرآنیة – أی استیعابها للزمان والمکان – لیست محل تساؤل فی العقل المسلم، إلا أن تنزیلها الواقعی یرتبط بنسبیة أحوال وظرفیة أماکن، ویرتبط أیضًا بعقل محدود لیس له علم بالغیب ولا یدری ماذا یحدث غدا، "وما أوتیتم من العلم إلا قلیلا".