نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول
المؤلف
رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام -فی البدء والختام- على من لا نبی بعده، وبعد:
فإن الفکر الفقهی -کسائر أنواع الفکر القانونی- لا ینمو ویزدهر إلا بالتطبیق والممارسة التی تحمل کل أطراف المنظومة الفقهیة والقضائیة: من مفکّرین ومنظّرین، وقضاة ومحکّمین، ومدَّعین ومدافعین، بل ومتقاضین ومتخاصمین، على أن یتّصلوا بمصادر هذا الفکر الفقهی ومراجعه، وأن یواصلوا التفکیر فی نظریاته ومسائله، فی تراثه الزاخر، وواقعه الحاضر، وقد تدعوهم أیضًا -بطبیعة الصراع والتفاعل بین أطراف هذه المنظومة- إلى العودة إلى أصوله وفلسفته، وقواعده ومبادئه الجامعة لأمهاته أو الضابطة لفرعیاته؛ کی یمهّدوا لدعاواهم أو دفوعهم، ویسوّغوا أحکامهم أو توفیقاتهم، بما یشهد لها من أصول، أو یشابهها من نظائر، أو یمیزها من فروق.
وعن طریق هذا الزخم الفکری، والتفاعل الفقهی، فی إطار أیِّ نظامٍ قانونی، یکون النمو والتجدّد، والاتساع والانتشار، والغنى والازدهار. وقد نعِم الفقه الإسلامی -بحمد الله- بهذه الحیویّة المتجددة قرونًا متطاولة، حین کان هو -بأصوله وبفروعه- الأساس الدستوری للحیاة القانونیة فی دیار المسلمین، والمرجعیّة الفقهیة لسائر قضایاها ومشکلاتها، على الصعید الفردی والجماعی، والمحلی والدولی، وفی المجال الجنائی أو المدنی أو الإداری، فضلًا عن الأحوال الشخصیة والمسائل التعبّدیَّة؛ وذلک هو سرّ ما یعجب له الدارسون الیوم من اتساع أطراف هذا الفقه، وعمق أنظاره، وتعدد مدارسه ومذاهبه، وکثرة تطبیقاته ومسائله، وإحکام أصوله ومبادئه.
حتى ضعفت الحیاة الإسلامیة، وتخلّفت بلاد المسلمین عن رکب الحضارة، فطمع فیها خصومها ممن یحملون عقائد مغایرة، وینتمون لحضارات مخالفة، فاحتلوا بلاد المسلمین واحدة بعد الأخرى، واحتکوا -بطریق مباشر- بالفقه الإسلامی الذی یحکم تلک البلاد على نحو أو آخر، وعملوا على حصاره تطبیقیًّا، برغم إفادتهم منه نظریًّا، حتى حصروه نهائیًّا -کما هو معلوم- فی مجال الأحوال الشخصیة والأحکام التعبدیة.
لقد کانت مأساة حضاریة، وخسارة إنسانیة، لم یصطلِ بنارها المسلمون وحدهم، بل حرم بسببها الفکر الإنسانی من اطّراد "الفکر الفقهی" واستمرار حیویته النظریة والعملیة، بسبب هذا التحجیم والانحصار، والتقلیص والإضمار، ولسنا بصدد التأریخ لهذه المأساة الحضاریة وآثارها، ویکفینا الآن الإشارة إلى فداحة ثمنها ومرّ ثمارها. لکن الله تعالى لم یُخْلِ من أهل الحقیقة جیلا، فکانت النهضة الحدیثة فی بلاد المسلمین، والحرکات التحرّریة لشعوبها، دافعًا إلى لفتة حضاریة، إلى التراث الفقهی المهجور، والنظام الدستوری والقانونی الذی انفرط عِقده أو کاد، وتوقَّف نموُّه إلا من درس نظری فی المدارس الدینیة لا صلة له بتیار الحیاة الدافق، وتجدّدها الفیَّاض، اللهم إلا فی المجال الضیّق الذی ذکرناه، ولم یسلم هذا من عبث المثقفین ثقافةً حدیثة زاحمت التعلیم الأصلی فی بلاد المسلمین، وظهرت تجلیات اللفتة الحضاریة والنهضة التحرُّریة فی جهود فردیة وجماعیة لفقهاء وقانونیین، ناصروا الفکر الفقهی ومارسوه، وفی جهد مؤسسات نفضت عنها عفاء السنین، وتقدَّمت لأداء الواجب التاریخی، وترمیم المشهد الحضاری، فی مقدمتها "الأزهر الشریف" فی مصر، والمحکمة العلیا الشرعیة بها حتى منتصف القرن العشرین، ودار الإفتاء المصریة، ومن عمروها من فقهاء ومصلحین، بجانب أقسام الدراسات الشرعیة فی الجامعات المصریة الحدیثة ورجالها البارزین.
لقد ظهرت ثمار هذا الدور الأخیر من حیاة الفقه الإسلامی وتاریخ تشریعه، فی مؤلفات جدیدة على نظم حدیثة، وتقنینات جدیدة تفید من مختلف المذاهب الفقهیة، وموسوعات تعید إنتاج التراث الفقهی وعرضه فی أنساقٍ حدیثة، وتجدیدات فی مناهج الدرس والبحث "الأکادیمی"، و"دوریّات" متعدّدة تتابع الحیاة الفقهیة الجدیدة، وتغذیها بالمقارنات القانونیة، والإطلالات الفکریة على النظم الأخرى فی الشرق والغرب، ونهضت بذلک مجلات: الأزهر، والمحامین المصریین، ونور الإسلام، والإسلام، ولواء الإسلام، ومثیلاتها بمصر وغیرها. لکن دار الإفتاء المصریة بما لها من تراث غنی، ودور سریّ، وتجدد فتِیّ، قدّمت -فی السنین الثلاث الأخیرة- مجلة متخصصة فی الفقه وأصوله، ودراساتهما المستفحصة، وبحوثهما المعاصرة، تحمل اسم الدار العریقة، وتلتزم أصول الکتابة العلمیة المرعیة: من توثیق المادة العلمیة، وتنویع المصادر والمراجع، وجِدّة التناول ومحاولة الإبداع، فاستقبلتها الأوساط الفقهیة، بما تستحقه من تقدیر وتَرحاب.
وقد شرفتنی "المجلة" بتقدیم عددها الفصلی الحادی عشر، ویحوی ثلاثة أبحاث متمیزة، لعلماء مختصِّین:
- أولها عن "التعلیل بالأسماء عند الأصولیین" وهو جانب فنیّ دقیق من "نظریة التعلیل" التی تُعَد جوهر النظام القیاسی من أصول هذا الفقه، جمع فیه الکاتب الفاضل بین الأسلوبین التحلیلی النظری، والتطبیقی العملی، فی وقت معًا.
- والبحث الثانی عن "الواجب المرتّب" فی الفقه الإسلامی، یرکز النظر فی علاقته بالمقاصد الشرعیة، کما هو الشأن فی کثیر من البحوث المعاصرة التی تولی الجانب المقاصدی عنایة ملحوظة.
- والبحث الأخیر عن "التمویل والاستثمار" ویتناول واحدة من أهم المشکلات فی الاقتصاد الإسلامی المعاصر، التی تحاول "المصارف الإسلامیة" التی انتشرت فی أنحاء العالم کله، أن تجدّد معالمها، وتثری آلیاتها وصیغها، وتحکِم إجراءاتها ومعاملاتها؛ لأهمیتها التنمویة والاقتصادیة.
هذا، وبالله التوفیق، والحمد لله رب العالمین.