کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

أستاذ أصول الفقه م بجامعة الأزهر

المستخلص

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد...
فمن المعلوم أن علماء الفقه منذ أن تأصل وأرسيت قواعده في صدور الطبقة الأولى من أصحاب رسول الله r استنباطًا من القرآن العظيم وسنة المصطفى الأمين r هؤلاء العلماء والمجتهدون واجهوا کل جديد من الواقعات والأحداث بحکم شرعي مستنبط من هذين المصدرين -الکتاب والسنة-  وما تفرع عليهما من أدلة.
فمن خصائص الشريعة الإسلامية "مرونتها" حيث فصَّلت ما لا يتغيَّر، وأجملت ما يتغيَّر ضرورةً لخلود هذه الشريعة ودوامها وعمومها.
ومن تتبع تاريخ الشرائع والنظم يتبين له أن أي نظام في الحياة لم يقم طفرة ولم يتکوَّن جملة على نحو متماسک، بل لا بد أن يمر بجميع الأدوار التي يمر بها کل کائن حي حتى يصل إلى غاية من النضج والکمال، وقد کان هذا هو شأن الفقه الإسلامي، فقد تدرج في مراحل متعاقبة حتى نضج، ثم تعثَّر وتأخر حتى تجمد.
والمتتبع لخطوات الفقه الإسلامي يظهر له أنه تأسس على قواعده الکلية وأصوله العامة بوحي من الله تعالى إلى رسوله r وأن تلک القواعد والأصول قد احتواها القرآن الکريم وسنة رسوله r التشريعية قولا وعملا وتقريرًا.
ثم جاء دور البناء على تلک القواعد والأسس، ثم دور النضج واستکمال مقوماته والارتفاع به على يد مجموعة من الأئمة المجتهدين المخلصين الذين کان لهم من صدق العزيمة وقوة الإيمان ونفاذ البصيرة وحرية الفکر المستنير ما مکَّن لهم من الوصول بالفقه والتشريع الإسلامي إلى غايته؛ وذلک بحسن الفهم وقوة الإدراک لأسرار النصوص الشرعية في الکتاب والسنة، وتعرُّف مراميها والقدرة على مواجهة الأحداث والواقعات التي لم تکن فيمن کان قبلهم، فاستبانوا حکم هذه الوقائع وأنزلوه عليها، وصاغوا للناس تشريعًا وفقهًا سائغًا لم يرقَ إلى مرتبته أيُّ نظام قانوني آخر حتى الآن.
ثم جرت على مسيرة الفقه ما يجري على کل موجود في هذه الحياة من تعثُّر الخُطَى والتخلف عن مسايرة رکب الحياة المتجدد حتى آل الأمر إلى جمود على التقليد، وتوقفت حرکة الفقه وقصرت عن مواجهة کل جديد من الواقعات التي تتوالى بطروء الحوادث والعقود، وأدى هذا الجمود إلى إطلاق کلمة النصوص الشرعية على أقوال الفقهاء حتى رفعت هذه إلى مکانة لم يضعها فيها قائلوها.
ولذلک کانت الدعوة إلى الإصلاح في فترات متعاقبة منذ أوائل القرن الثالث عشر الهجري وإلى الآن وفي أقطار مختلفة من بلاد المسلمين.
وقد استهدف الإصلاح محاور ثلاثة:
الأول: الابتعاد عن التقليد المطلق وعن الوقوف عند حدود المذاهب الأربعة والعمل على الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعية من مصادرها المختلفة.
الثاني: استحداث کتب في الفقه تحوي الأحکام وأدلتها الصحيحة، والإعراض عن الکتب المعقدة والمختصرة الـمُخِلَّة.
الثالث: الاستفادة من الفقه الإسلامي بکافة مذاهبه دون التقيد بمذهب معين في التقنين والقضاء باعتبار أن تلک المذاهب المدونة جميعها ترجع إلى أصل واحد وتصدر عن معين صاف هو کتاب الله وسنة رسوله r وما تفرع عنهما من أدلة.
ومن المعلوم أن الفقه الإسلامي قد استمد بقاءه واستمراره من أساسين لم يحظَ بهما أي فقه سابق عليه أو معاصر له:
الأساس الأول: أن لهذا الفقه أصولا ثابتة وقواعد کلية ونصوصًا عامة قد تضمنت ما ينظم مسيرة الحياة الإنسانية، ويضمن لها الصلاح أفرادًا وجماعات في شئون الدين وأمور الدنيا.
الأساس الثاني: أن في أصول الفقه الإسلامي من المرونة والصلاحية ما يجعله قابلا للتطوُّر ومواجهة مطالب الحياة والتغير بحسب اختلاف الزمان والمکان والأشخاص والأحوال، ووسيلة هذا التطور هي الاجتهاد الصحيح القائم على الإدراک العميق لأسرار الشريعة ومراميها، والفهم المستنير لعلل الأحکام وحکمة التشريع، والاستناد إلى طرق الاستنباط المعتمَدة مع شرط أن يکون هذا الاجتهاد واقعًا ممن تأهَّل له وتمکَّن من تحصيل أدواته.
ولکي تستمر مسيرة الفقه الإسلامي متجددة ملاحقة لحرکة الحياة وتنوع قضاياها، ينبغي أن يجدَّ العلماء لمراجعة ما حرره فقهاء المذاهب من مسائل وقضايا للتعرُّف على موقعها من هذا العصر وتطوره المادي والعلمي وصور المعاملات والعقود التجارية والصناعية والزراعية، وعرض الجديد منها على القواعد والأصول المستقرة والمستمدَّة من دليل شرعي، حتى إذا لم يجدوا لواقعة حکما أمعنوا النظر لاستنباط الحکم أو الأحکام التي يحتاج إليها في التعامل.
وينبغي أن يتوافق العلماء على حصر المسائل المختلف عليها في الفقه المدون للمذاهب المختلفة، ومدارسة أسباب الاختلاف ووجهة کل مذهب تحکيما بين الأدلة ووصولا إلى الحق فيها، ثم يقولون للمسلمين ما انتهوا إليه في الترجيح.
وهذا ما تقوم به مجلة دار الإفتاء المصرية في استنهاض همم الباحثين الجادِّين في علوم الشريعة الإسلامية کي يسهموا بإنتاجهم العلمي في إثراء هذه الأمة والنهوض بها، فهذه المجلة وسيلة مهمة من وسائل نشر العلم الشرعي الشريف، نسأل الله تعالى أن يوفِّق القائمين عليها لخدمة ديننا الحنيف، وأن يجعل ذلک في ميزان حسناتهم.. آمين.