کلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر

المستخلص

يرى بعض أهل العلم أن التعددية المذهبية أو الخلاف الفقهي في المسألة الواحدة أمرٌ مقيتٌ، ومَظهرٌ من مظاهر الفرقة والشقاق، وأنه يجب على المسلمين الخلاصُ من ذلک عن طريق نبذ المذاهب الفقهية واعتماد ما ورد في الکتاب والسنة مباشرةً.
وقد انتصر ابنُ حزم الظاهري لهذا الاتجاه الذي يروِّج له کثيرٌ من أَدْعياء الفقه في هذا العصر، ولئن کان انتصارُ ابن حزم لتلک الرؤية الفقهية بدافع إثبات صحة اجتهاده في المسائل الفقهية دون عجز أو ضعف عن مناقشة اجتهاد غيره، فلا نعلم دافعًا لترويج أدعياء الفقه في هذا العصر للخلاص من أقوال فقهاء المذاهب والمجتهدين المعاصرين في المستجدات إلا انعدام ملکتهم الفقهية، وعجزهم عن مواجهة أدلة مخالفيهم، وأن ما يملکون من بضاعة فقهية ليست اجتهاداتٍ غيرَ مسبوقة، وإنما هي مجرد اختيارات أو انتقاءات من عموم المذاهب المختلفة دون أن تکون لهم مدرسةٌ يردون إليها کمدرسة ابن حزم وغيره من الفقهاء المبرزين، وهم باختياراتهم الفقهية يعمدون إلى حشد العامة بکلمة حق يراد بها تجهيلُ الناس عن فقه الکتاب والسنة؛ ليمتلکوا وحدهم کلمة الحلال والحرام تحکمًا في مصير الأمة التي من حقها أن تعيَ اجتهادات المجتهدين ورؤى الفقهاء المعتبرين؛ ليمارس الناس حقَّهم الشرعي -کما مارسوه هم- في التعقُّل والتدبُّر والاختيار، بما يحقق المصالح ويرفع الحرج، فقد أخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن وابصةَ بنِ معبد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((اسْتَفْتِ قلبک وإن أفتاک الناس وأفتوک))، وأخرج بإسناد جيد عن أبي ثعلبةَ الخُشَنِيِّ أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((استفتِ قلبک وإن أفتاک المُفْتُون)).
وإنما سَلِمَ ابنُ حزمٍ وأمثالُه من أهل الحجة من تهمة التحکم في الخلق لما تحلوا به من أمانةٍ علميةٍ في ذکر أقوال مخالفيهم وأدلتهم، فلا تزال مؤلفاتُ ابن حزم التي حفظها الله شاهدةً على تلک الأمانة، کما يشهد له کتابُه المحلى على قوته في مناقشةِ أدلةِ مخالفيه، وإحاطته بأقوالهم في الجملة، ثم کتابُه الإحکام في أصول الأحکام الذي جعله -کما قال في مقدمته- موعبًا للحکم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحکام في الديانة، مستدلًّا بظاهر قوله تعالى: {ٱلۡيَوۡمَ أَکۡمَلۡتُ لَکُمۡ دِينَکُمۡ} [المائدة: 3].
وقد بيَّن جهة الاستدلال بقوله: "فأيقنا أن الدين قد کمل وتناهى، وکل ما کمل فليس لأحدٍ أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، ولا أن يبدله، فصحَّ بهذه الآية يقينًا أن الدين کلَّه لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل، ثم على لسان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو الذي يبلغ إلينا أمرَ ربنا -عز وجل- ونهيَه وإباحتَه، لا مُبَلِّغ إلينا شيئًا عن الله تعالى أحدٌ غيرُه، وهو -عليه السلام- لا يقول شيئًا من عند نفسه، لکن عن ربه تعالى، ثم على ألسنة أولي الأمر منا، فهم الذين يبلغون إلينا جيلًا بعد جيل ما أتى به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الله تعالى، وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئًا أصلًا، لکن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هذه صفة الدين الحق الذي کل ما عداه فباطلٌ وليس من الدين".
وقد تدرَّج ابنُ حزم من هذه المقدمة في کتابه الإحکام إلى الإنکار الصريح لفکرة الاختلاف الفقهي، وعقد لهذا الاختلاف بابًا مستقلًّا في ذَمِّه، ومما جاء فيه: "قال قوم: هذا مما يسع فيه الاختلاف. قال أبو محمد: وهذا باطلٌ، والاختلاف لا يسع ألبتة ولا يجوز... وقد غلط قوم فقالوا: الاختلاف رحمة. قال ابن حزم: وهذا من أَفْسَدِ قول يکون؛ لأنه لو کان الاختلاف رحمةً لکان الاتفاق سخطًا، وهذا ما لا يقوله مسلم؛ لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط".
لقد ذهب أکثرُ أهل العلم وجماهير الفقهاء في المذاهب المختلفة إلى أن التعدديةَ المذهبيةَ أو الخلافَ الفقهيَّ القائمَ على اجتهاد بالمنهج العلمي الصحيح ضرورةٌ شرعيةٌ تجدِّد الدِّين وتضمن له البقاء بدوام الدنيا، وتُظهر توسعته ورحمته بالناس.
1- أما کون التعددية الفقهية ضرورةً شرعيةً، فَلِتَوَاتُرِ الأدلة على وجوب الاجتهاد الذي يستلزم باليقين التعدديةَ المذهبيةَ دون إنکار شرعي، بل مع الثناء الشرعي لکل مجتهد. قال تعالى: {وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡکُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَکُنَّا لِحُکۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ ٧٨ فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَکُلًّا ءَاتَيۡنَا حُکۡمٗا وَعِلۡمٗا} [الأنبياء: 78، 79].
فأثنى الله على النبيَّيْنِ في حکمها، وزاد سليمان ثناءً، وذلک فيما عرفناه بعدُ من أجر الاجتهاد وأجر الإصابة فيما أخرجه الشيخان عن عمرو بن العاص أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إذا حکم الحاکم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حکم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)).
2- وأما کون التعددية الفقهية تجدِّد الدِّين، فلاسْتِمْرَارِهَا بمضي الزمان مع تغيُّر الأوضاع التي تستلزم التوفيق مع الحکم التکليفي، فيتجدَّد الحکم الشرعي، وهو الذي يضمن البقاء لتلک الشريعة التي توفق أحکامها التکليفية دائمًا مع الأحکام الجعلية دائمة التغيير؛ امتثالًا لما أخرجه الطبراني وأبو داود والحاکم وصححه، کما صححه الزين العراقي ثم الألباني عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس کل مائة سنة من يجدِّد لها دينها)).
وتجديد الدِّين لا يختصُّ بمعالجة المستحدثات والنوازل؛ وإنما يشمل أيضًا التحوُّلَ من وجه فقهي إلى وجه فقهي آخر کان متروکًا، وبَدَت الحاجة إليه، ثم التحول منه مرةً أخرى إلى الوجه الأسبق، وهکذا کلما کانت الحاجة لحفظ المقاصد الشرعية، مثل احتساب الطلاق الثلاث طلقةً واحدةً في عهد أبي بکر وصَدْر من خلافة عمر، ثم احتسابه ثلاثًا بعد سنتين من خلافة عمر سنة 15هـ تقريبًا، ثم احتسابه واحدةً مرةً أخرى بفتوى ابن تيمية (661 – 728 هـ) على الأشهر في فهم هذه المسألة، وهو ما عليه أکثر الناس اليوم.
3- وأما کون التعددية الفقهية تُظهر سعةَ الشريعة الإسلامية ورحمتَها بالناس، فلاعْتِبَارِ تلک الشريعة باجتهاد المجتهدين، وهم يمثلون بتعددهم صنوفَ الناس ومشاربَهم، فکان کل اجتهاد له من الناس مؤيدون ومقتنعون، وبذلک شملت مظلة الشريعة عمومَ البشر، وفي هذا من التوسعة والرحمة ما لا يخفى.
أخرج الخطيب البغدادي عن القاسم بن محمد قال: لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أي ذلک أخذتَ به لم يکن في نفسک منه شيء. وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما أُحب أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يختلفوا؛ لأنه لو کانوا قولًا واحدًا کان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم کان في سعة. وعن ابن سيرين أنه سئل أن فلانًا يقول کذا وفلانًا يقول کذا وفلانًا يقول کذا، فقال: اختر لنفسک. وعن سفيان الثوري قال: اختلاف أصحاب محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- رحمةٌ لعباد الله تعالى. وعن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة.
کما أخرج الخطيب البغدادي أن هارون الرشيد قال لمالک بن أنس: يا أبا عبد الله نکتب هذا الکتاب -يعني الموطأ- ونحمل الناس عليه، ونفرقه في آفاق الإسلام، لتحمل عليه الأمة. فقال: يا أمير المؤمنين: إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، کل يتبع ما صحَّ عنده، وکلهم على هدًى، وکلٌّ يريد الله تعالى.
 ويجب التنبيه إلى أن الدعوة إلى التعددية الفقهية لا تعني انفلاتَ الأمر إلى غير المتخصصين، فالفقه لا يؤخذ إلا من أهله الذين يمسکون الناس بأحد أطراف الشرع استجابةً لقوله سبحانه: {وَٱلَّذِينَ يُمَسِّکُونَ بِٱلۡکِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ} [الأعراف: 170].
وأما التشکيک في التعددية الفقهية بدعوى وَهْمِ النزاع والشقاق، فلا محل له إلا عند المزايدين في الدِّين الذين يُزَکُّون أنفسهم ويتهمون مخالفيهم بالجهل أو بالکفر أو بالزندقة.
أما أهل العلم فيتحلَّوْن بما نُسب للإمام الشافعي -مع علمه وتقواه، دون أن نزکيَه على الله- من قوله: "قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقولُ غيري خطأٌ يحتمل الصواب". ولعل هذا ما يمکن أن نفهمه من قوله سبحانه: {فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن کُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ} [النساء: 59].
فعلى أصحاب الأقوال المختلفة من أهل الاجتهاد أن يُبينوا جهة تعلقهم بالکتاب والسنة دون الدخول في نزاع مع المخالفين؛ لأن الله سيفصل بينهم يوم القيامة دون أن يضيع أحدًا منهم، إذ سيکون للمصيب أجرانِ، وللمخطئ أجرٌ على اجتهاده.
وإذا لم يکن من حق المجتهدين أن ينکر بعضُهم على بعض، فلم يکن أمامهم بدٌّ من التکيف مع هذا الاختلاف؛ لتسيير أمور الحياة، وذلک بترک الناس مع سعتها إن لم يقع على عمومهم ضررٌ، وإلا فمن حق المجتمع أن يختار أحد الوجوه الفقهية ليلتزم بها الجميع في مکان وزمان معينين، ولهم الحق في التحول من هذا الوجه إلى وجه فقهي آخر کلما کان لذلک مقتضًى بحسب دوران المصالح.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله قالا: سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض. وعن أنس قال: سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وعن أنس أنه سئل عن التلبية غداة عرفة، فقال: سِرت هذا المسير مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه فمنَّا المکبر ومنَّا المهلل، ولا يعيب أحدنا على صاحبه. وأخرج النسائي والدارقطني عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من المدينة إلى مکة، حتى إذا قدمت مکة قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي قَصَرْتَ وأَتْمَمْتُ، وأَفْطَرْتَ وَصُمْتُ. قال: ((أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ)) قال: وما عاب عليَّ.
يجب أن نتعاون من أجل رفع وصاية المزايدين على العلماء والفقهاء في دينهم، وأن نحمي عموم الناس من سلب عقولهم عندما تزعم فئةٌ أن الحق في اختيارهم الفقهي دون اختيار غيرهم، وأنهم الناجون وغيرهم هالک، ويزينون الکلام بما يسحر البسطاء، فيسلمون عقولهم لسحرة الکلام، ويعادون أهل الحجة والبرهان.
إن الإيمان يقتضي التسليم لله، ولکن بفکرک واختيارک دون وصاية من أحد. قال تعالى: {وَکُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
وأهل العلم ليسوا أوصياءَ، وإنما هم مبينون، فإن اختلفوا فلک أن تختار ما تشاء؛ لأنک بهذا الاختيار ممتثلٌ لقوله سبحانه: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّکۡرِ إِن کُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [النحل: 43].
وإياک أن تبيع عقلک لغيرک، أو أن تجعلَ حقک في الاختيار لغيرک إلا عند الضرورة مِن عجز أو إلزام الجماعة، وذلک لإنسانية الإسلام التي يغفل عنها کثيرٌ من الناس، وتذکَّرْ دائمًا أَمْرَ الله بالتفکر حتى في أمور التشريع. قال تعالى: {وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡکَ ٱلذِّکۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَکَّرُونَ} [النحل: 44].