کلمة العدد

المؤلف

مفتي الديار المصرية

المستخلص

       الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد...
       فإن البحث العلمي من أبرز ملامح التقدم ومظاهر الرقي الحضاري ونهضة الأمم؛ فلا يمکن تحديث الدولة وتنمية المجتمع حضاريًّا بمعزل عن البحث العلمي کأداة جوهرية في إبراز الحقائق وکشف الغوامض.
       والمتأمل في قوله تعالى: ﮋقُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ کَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ کُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞﮊ [العنکبوت: 20] واستعمال أفعال الأمر "سيروا، وانظروا" وهي تفيد الوجوب، والکلام عن الأرض وهو يفيد العموم، والاستقراء والتتبع في قوله: ﮋکَيۡفَ ﮊ مع التأمل في قوله تعالى: ﮋأَفَلَمۡ يَنظُرُوٓاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوۡقَهُمۡ کَيۡفَ بَنَيۡنَٰهَا وَزَيَّنَّٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٖﮊ [ق: 6]، وقوله: ﮋأَوَلَمۡ يَنظُرُواْ فِي مَلَکُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ.... ﮊ [الأعراف: 185]- المتأمل في کل ذلک يتضح له أن البحث بصفة عامة والعلمي منه بصفة خاصة مما يدخل في نطاق التوجيهات الربانية والتشريعات الإلهية؛ فإن الله سبحانه وتعالى شرع السير في الأرض والنظر والتأمل والاعتبار مطيةً لنفع الکون والإنسان بالعلم والعلماء، وفَضَّل العلماء على غيرهم فقال: ﮋقُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَﮊ [الزمر: 9].
       والبحث العلمي -وفق وجهة نظر اليونسکو- هو: "عمليات الدراسة والتجربة وصياغة المفاهيم واختيار النظريات التي تدخل في توليد المعرفة العلمية"، وهو من هذا المنطلق يحدد الاحتياجات ويبين الحلول ويوفر المسائل اللازمة لتحقيقها.
       وقد وضع العلماء المسلمون الأسلوب المنهجي في البحث والتأمل والاستدلال لجميع المعارف والعلوم النظرية والتطبيقية، ومن معالم ارتقائهم بالبحث العلمي التزامهم بمنهج علمي ثابت ينبني على قواعد عامة متعارف عليها لها ارتباطها بالبحث الدائب الأصيل عن حقائق المعرفة.  
      وقد سبر العلماء المسلمون غور جميع المناهج المستخدمة في البحث العلمي فقرَّبوا المنطق التقليدي وعرَّبوه واستخدموه، وتوسعوا في القياس وأدخلوه في دراستهم للعلوم الشرعية کأصول الفقه وغيره، کما انتهجوا المنهج الرياضي فاستخدموا الرموز ووضعوا قواعد الجبر، وعرفوا الهندسة وابتکروا فيها وأضافوا إليها، کما اهتدوا إلى أسلوب مهم من أساليب التفکير هو الاستقراء، وکذلک استخدموا في بحثهم في العلوم الاجتماعية المناهج المناسبة لذلک.
       ولم يفصل العقل العلمي عند المسلمين بين المناهج العلمية في أبحاثهم، ولکنهم کانوا يستخدمونها حيث يجب أن تُستخدم، وذلک لأن العقل العلمي عندهم يتميز بحرصه على تحديد مصادر المعرفة والتفرقة الدقيقة بين مجالاتها المختلفة، فالمجال الحسي کالکيمياء والطبيعة يختلف عن المجال العقلي کالرياضيات، وهو بدوره يختلف عن المجال النقلي کشأن اللغة والشريعة، وقد تتداخل هذه المجالات کما هو الشأن في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولکل مجال منهج بحثه وترتيب أدلته.
       ولم يذهب علماء الإسلام إلى مثل ما ذهب إليه ديکارت حيث قال: إن المنهج الرياضي يصلح دون غيره لجميع أنواع العلوم، بل آمنوا بکل طريقة وأسلوب يوصل إلى نتائج صحيحة ما دام هذا الأسلوب يتفق مع العقل البشري، وعن هذه المناهج العربية نقل علماء الغرب مناهجهم وطوّروها وأکثروا من استخدامها، فاشتهر منهم أساطين رسخوا دعائم العلم الحديث أمثال برتراند رسل وفرنسيس بيکون ، فالبحث العلمي يستخدم الآن من المناهج ما يتفق وطبيعة العلم، فالمنهج الرياضي والمنطق والاستقراء ومنهج علم الاجتماع والمنهج التاريخي هي المناهج العلمية السائدة في العصر الحاضر، وهي في الأصل مناهج کان يستخدمها المسلمون في عصر مجدهم العلمي.
       وإن تحليل هذا العقل العلمي لأسلافنا وما ترکه من موروث حضاري للوقوف على سماته ومناهجه العلمية، ومن ثَمَّ سيرنا على خطاه في العناية بالبحث العلمي -هو نقطة البداية الصحيحة لمشارکتنا في بناء الحضارة الإنسانية، فالعالم في حاجة إلى المسلمين وتراثهم وطريقة تفکيرهم، وتجربتهم في استيعاب الحضارات وتلاقح الأفکار واستنباط صيغ جديدة في التعامل مع کافة مجالات الحياة.
       وإذا کان البحث في العلوم التجريبية له أهمية کبرى في حضارتنا المعاصرة، فإن البحث في علوم الشريعة الإسلامية لا يقل أهمية عن البحث في فروع المعرفة الأخرى، وهو وإن کان له منهج بحث وترتيب أدلة خاص؛ إلا أن الباحث فيه لا يخرج عن إطار العقل العلمي بما يتسم به من تحديد طرق البحث، وترتيب الأدلة، والرؤية الکلية، وعدم إهمال الجزئيات، وتأصيل المسائل وتفصيلها، ووضع المصطلحات بإزاء المفاهيم، والاعتماد على الحقائق دون الانطباعات والرغبات والأوهام؛ لأنه عَلِم وتيقن أن: حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق.
       وللعقيدة الراسخة أن البحث العلمي هو الحکم والمعيار في القضايا العويصة والميزان المرضي فيما يقرره من نتائج، فقد اعتنت مجلة دار الإفتاء المصرية بنشر الأبحاث العلمية الشرعية خاصة لشباب العلماء والباحثين من مصر ومن خارجها وفق ضوابط علمية دقيقة.
وقد التزمت مجلة دار الإفتاء المصرية بنشر بحوثها وفق ما وضعته من ضوابط طوال سنتين صدرت فيهما أعدادها الستة، وکانت المجلة في الأعداد التي صدرت عنها –وستظل بتوفيق الله تعالى- منبرًا من منابر النخبة في مجال البحث العلمي في فروع الشريعة؛ فکفلت لهم نشر آرائهم وأفکارهم في بحوث علمية متخصصة تتناول بعمق القضايا المثارة بطريقة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
       والمتأمل في البحوث التي نُشرت في مجلة دار الإفتاء المصرية منذ بداية صدورها –رغم قلة ما صدر منها من أعداد- يرى مدى التنوع في الأبحاث المنشورة فيها، والموازنة بين فروع المعرفة الشرعية المختلفة التي تُعنى المجلة بالنشر فيها؛ فقد تنوعت الأبحاث المتخصصة المنشورة ما بين أبحاث في أصول الفقه وأخرى في القواعد والنظريات الفقهية وثالثة في الفقه بأقسامه المختلفة، فنشرت المجلة الأبحاث العلمية العميقة في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وما يتعلق بالسياسة الشرعية، کما يلاحظ مدى تميز نتائج کل بحث من هذه الأبحاث وما أضافه في مجال البحث الشرعي من قضايا جديدة وتَنَاوُل جمع بين الأصالة والتجديد.
       کما لا يخفى على المتابع لأعداد المجلة ما للبحوث المنشورة فيها من أثر على اتجاهات الفتاوى الصادرة من دار الإفتاء المصرية ومساعدة أمانة الفتوى في إدراک الواقع على ما هو عليه ومعرفة الحکم الشرعي فيه، والذي ينعکس على الفتوى بطبيعتها المتغيرة حسب الزمان والمکان والأحوال، ويظهر ذلک جليًّا إذا قارنا بين ما نشر في المجلة من أبحاث مثل رتق غشاء البکارة وحکم العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين وما صدر عن دار الإفتاء من فتاوى بخصوص هذه القضايا.
      وفي هذا العدد تواصل المجلة تأدية رسالتها بطائفة متميزة من الأبحاث العلمية في أبواب الفقه الإسلامي وأصوله، وقد روعي في اختيار هذه الأبحاث أن تکون إضافة مناسبة تتواءم مع طموحات أبناء هذه الأمة وتسير في نطاق الأهداف المخططة في سبيل صلاح الأمة ونهضتها، والذي لن يکون إلا بالمبادرة إلى امتثال الأوامر الواردة في النصوص الشرعية، وهو ما شرحه وبينه من الجهة الأصولية الدکتور عبد السلام عبد الفتاح عبد العظيم في بحث طيب عن کون الأمر بالشيء يقتضي المبادرة إليه أو لا يقتضيها.
       ثم الترقي في سُبل الإصلاح الاجتماعي بالبدء في مراعاة الفئة المستضعفة من أبناء الأمة، وهو ما اهتم به الدکتور محمود حربي عبد الفتاح في بحثه الذي تناول فيه مشکلة أطفال الشوارع ودور الدولة في الولاية عليهم.
       ولم تُغفل المجلة سبيلا مهمًّا من سُبل الإصلاح، وهو التعليم؛ فقدم فيه الباحث وحيد أحمد عبد الجواد توصية بتفعيل دور الوقف وتطويره بما يتلاءم مع الوقت الراهن، وذلک في بحثه عن دور الأوقاف في تمويل نشاط التعليم والبحث العلمي. وفي مجال الحياة الاجتماعية يقدم الدکتور محمد علي عکاز دراسة تتضمن التأصيل الشرعي والتکييف الفقهي للحق التعاوني الذي أصبح في أيامنا هذه شيئًا کبيرًا ومهمًّا.
       وأخيرًا ندعو الله سبحانه وتعالى أن تکون مجلة دار الإفتاء المصرية بما تقدمه من بحوثٍ خادمةً لشريعة الإسلام وطريقًا لهداية متبعيه إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.