کلمة العدد

المؤلف

أمين الفتوى ومدير إدارة الفتاوى المکتوبة بدار الإفتاء المصرية

المستخلص

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد..
يصدر هذا العدد من مجلة دار الإفتاء المصرية في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها أمتنا؛ تغييرًا وإصلاحًا وبناءً، ومع کثرة الدعاوى العريضة في هذه الظروف وظهور کثير من أدعياء العلم تتجلى حاجة الناس إلى الالتفاف حول المنهج الوسطي الذي يمثَّله علماء الأزهر الشريف عبر القرون؛ شريعة وعقيدة وسلوکًا، حيث جعلهم الله سبحانه وتعالى منذ العصور الأولى منارات يُهْتَدَى بها، فکانوا مِن خير ورثة الأنبياء الذين يتلمس الناس عن طريقِهم طريقَهم إلى الله، ويهتدون بهديهم إلى معرفة هُداه، حيث قاموا في الأمة مقام النبي عليه الصلاة والسلام، بما يبلغونه عن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- من الأحکام الشرعية والفتاوى التي هي بالنسبة لعامة الناس کنصوص الشريعة بالنسبة للمجتهدين.
وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المثل لمدى قابلية الناس في الأخذ من ميراث النبوة وتفاوتهم في ذلک، في واحد من أجمل الأمثلة التي توضح صفات المنهج الوسطي في فهم الدين ونشره؛ فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ کَمَثَلِ الغَيْثِ الکَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَکَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الکَلَأَ وَالعُشْبَ الکَثِيرَ، وَکَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَکَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِکُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ کَلَأً، فَذَلِکَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِکَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
والمتأمل في هذا الحديث الشريف يرى روعة التمثيل النبوي ودقته؛ حيث وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الأرض الصالحة بأرفع الأوصاف وأنفعها: فهي نقيةٌ في أصلها، وهي قابلة للماء، ولديها القابلية للإنبات، ونتاجها کثير وانتفاع الناس بها متنوع وفير.
وهذا هو الحال في العلماء أصحاب المنهج الوسطي في فهم الإسلام الذين هم ورثة الأنبياء على الحقيقة:
أما نقاء أصلهم: فهم أمام غيث الوحي الإلهي أصحابُ فطرة صافية نقية تسير في طريق العلم محضًا، وترى طلبه في نفسه فرضًا، لا أنها تعمد إلى نصوص الشريعة فتقرؤها قراءات محمَّلةً تلوي فيها أعناق النصوص وتحمِّلها ما لا تحتمله.
وأما قبولهم للغيث: فهم أصحاب المنهج السديد في التلقي والتثبت الذي أحسنوا من خلاله القبول والأخذ عن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ من جهة الحُجِّية: في الرجوع إلى مصادر التشريع، وأنه لا کلام لأحد مع کلام الله تعالى وکلام رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومن جهة الثبوت: في علوم النقل والرواية التي نقلوا بها الوحيين الکتاب والسنة نقلا لم تعرفه البشرية لأي کتابٍ أو دين عبر القرون.
وأما قابليتهم للإنبات: فذلک مناط خيريتهم، وهي الصفة المعوَّل عليها في تميزهم وأوليتهم على غيرهم، والمقصود بها في هذا التشبيه التمثيلي: تأهلهم وصلاحيتهم -بما أفنوا أعمارهم وجهودهم في تلقيه ودراسته وتعلمه- للتبليغ عن الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لينتفع بهم الناس بعد ذلک.
وعملية الإنبات هذه عملية مرکبة معقدة، تجتمع عليها أسباب متعددة، وتعتورها عوامل مختلفة، وتعوزها الرعاية والعناية، بدءًا من انتقاء البذرة، واحتياجها إلى الدفن في الأرض، وتعاهد سقيها بالماء، وتعريضها للهواء لتنفس النبات، والشمس لعملية التمثيل الضوئي، وإزالة الأجزاء الضارة أو تلک التي تعيق نمو النبات، في منظومة متکاملة متتابعة شبيهة -في ترکبّها وترتُّبها على بعضها- بالمنظومة التعليمية بأرکانها الخمسة: الأستاذ، والمنهج، والکتاب، والتلميذ، والجو العلمي.
وکما أن لکل سبب من أسباب هذه العملية أو مرحلة من مراحلها -انتقاصًا وتکاملًا- أثره السلبي أو الإيجابي في ترعرع النبات وصلاحه ونضجه، فکذلک الحال في طالب العلم فضلا عن غيره:
- فليس له أن يهرف بما لا يعرف، ولا أن يتکلم قبل أن يتعلم، وإلا صار کمن يتَزَبَّبُ قبل أن يتحصرم، أي: يصير زبيبًا قبل أن يصير حصْرمًا.
- وعليه أن يدفن نفسه في أرض الخمول، فيتواضع ويعرف محل نفسه من العلم، فما نبت مما لم يُدفَن لا يتم نِتاجُه، کما يقول الإمام العارف بالله سيدي ابن عطاء الله السکندري -رضي الله عنه- في "الحِکَم".
- کما أن الغياب عن الجو العلمي يؤثر سلبًا على استيعاب العلم الذي ينضج بتلاقح الأفکار وتقليب الأنظار أخذًا وردًّا، تمامًا کما ينضج النبات بتلاقح زهوره.
فإذا تکاملت للنبات هذه المنظومة الطبعية أينع وبدا صلاحه، وصار جميلًا في ظاهره ﮋ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ  ﯜ ﯝ ﮊ  [الأنعام: 99] وصالحًا للأکل والانتفاع به في باطنه ﮋ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ   ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ   ﯘﮊ  [الأنعام: 141]، وکذلک طالب العلم إذا تکاملت له المنظومة العلمية علمًا وأدبًا وسلوکًا صلح ظاهره وباطنه ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ               ﭛ     ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ  ﭣ ﮊ  [الأعراف: 58].
يقول الشيخ الإمام العارف سيدي زرُّوق في "قواعد التصوف" في القاعدة الثامنة والعشرين: "لکل شيء وجهٌ؛ فطالب العلم في بدايته شرطه: الاستماع والقبول، ثم التصور والتفهم، ثم التعليل والاستدلال، ثم العمل والنشر.
ومتى قدم رتبة عن محلها حُرِم الوصول لحقيقة العلم من وجهها، فعالم بغير تحصيل ضُحکة، ومحصل دون تصوير لا عبرة به، وصورة لا يحصنها الفهم لا يفيدها غيره، وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر، وما لم ينتج فهو عقيم، والمذاکرة حياته، لکن بشرط الإنصاف والتواضع".
ويقول في القاعدة الرابعة والثلاثين: "المتکلم في فن من فنون العلم، إن لم يلحق فرعه بأصله، ويحقق أصله من فرعه، ويصل معقوله بمنقوله، وينسب منقوله لمعادنه، ويعرض ما فهم منه على ما علم من استنباط أهله، فسکوته عنه أولى من کلامه فيه؛ إذ خطؤه أقرب من إصابته، وضلاله أسرع من هدايته، إلا أن يقتصر على مجرد النقل المحرر من الإيهام والإبهام؛ فرب حامل فقه غير فقيه، فيسلم له نقله لا قوله".
وکما تشير عملية الإنبات في هذا المثال النبوي إلى منهج التعلم والتلقي فإنها تشير أيضًا لمنهج الاستنباط والفهم والتبليغ عن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فالأرض الطيبة تأخذ الماء فتخرج الثمر من خلال عملية الإنبات المرکبة، وکذلک العالم والفقيه؛ يأخذ النص المجرد ليستثمر منه الحکم الشرعي، بعد أن يفهم سياقه وسباقه ولحاقه، منقحًا مناطه، ويجمع إليه بقية النصوص التي تتصل بموضوعه، ظنيَّها وقطعيَّها، مستحضرًا قواعد الشريعة الکلية ومصالح الخلق المرعية، مدرکًا لواقعه إدراکًا بينًا؛ لتخرج الثمرة في النهاية وهي الحکم الشرعي، فإن الأحکام ثمرات کما يقول حجة الإسلام الغزالي في ((المستصفى، 1/ 7))، قال: "وکل ثمرة فلها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر ومستثمر، وطريق في الاستثمار"، وهذا هو النتاج الذي ينفع الناس على اختلاف حاجاتهم وتنوع مطالبهم.
وبقدر ما يُنتَقَص مِن هذه المنظومة التعليمية أو الاستنباطية بقدر ما يکون الافتيات على العلم والعلماء، فتطفو النباتات الضارة وتظهر المشارب المتطرفة، ويتسامع الناس بالآراء الغريبة هنا وهناک، ويکون الافتيات على العلم وأهله.
غير أن الحق أبلج، والباطل لجلج، وقد قضت سنة الله تعالى في الکون ألا يبقى إلا الذي ينفع الناس، قال الله تعالى: ﮋ ﯧ        ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ     ﯻ ﯼ ﯽﮊ  [الرعد: 17].
نسأل الله تعالى أن يعيد إلى المسلمين عزهم ومجدهم العلمي، وأن يجمع الأمة على علمائها وورثة نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- الذين أهلهم لفهم دينه وتبليغ شريعته، وألا يجعل لأصحاب المشارب المتشددة أو الأفکار المنحرفة کلمة في المسلمين، وأن تذهب أفکارهم أيديَ سبأ، وتتشرذم مشاربهم شذر مذر، وأن يثبت حب نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- في قلوب المسلمين، ويجزيه عنا أفضل الجزاء، ويقر عينه -صلى الله عليه وآله وسلم- بصلاح أحوال أمته ورد مقدساتها، وأن يؤتيه من الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة فوق أمنيته.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.