کلمة العدد

المعلومات العلمية للعدد

المؤلف

أستاذ أصول الفقه بکلية الشريعة والقانون بطنطا

المستخلص

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأشياعه وحزبه، نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين، وبعد.
فإن ما تفرّدت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم، أن العلم في شريعتها دين وفريضة، بل هو أول فريضة فُرضت عليها من السماء حين هبط أمين الوحي جبريل -عليه السلام- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمره بأن يتلو قوله تعالى: .
ولأن هذه الأمة کذلک فإن عطاءها العلمي لم ينقطع إشعاعه قط على مدار تاريخها الطويل، حتى في أحلک فترات الوهن والضعف الذي مُنيت به هذه الأمة، لم تخل هذه الفترات من علماء أفذاذ مجددين، قادوا مسيرة التنوير والنهوض، کالعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم من الذين أزالوا عن هذه الأمة غبش الجهل والوهن في فترة تمثّل فيها أبشع صور التاريخ الإسلامي على الإطلاق -وهي الفترة ما بين القرنين السادس والثامن الهجري- حيث الصليبيون من الغرب، والتتار من الشرق، والانقسامات والخلافات والتنازع على السلطة في الداخل.
وفي العصر الحديث نجد علماء أفذاذًا -کالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا- يقودون مسيرة التنوير والنهوض بعد طول استعمار لهذه الأمة من الفرنسيين والإنجليز، ومن شايعهم.
ونحن اليوم وإن کنا نعاني تأخرًا حضاريًّا ملموسًا في شتى المجالات عن غيرنا من الأمم التي أفادت کثيرًا من حضارتنا -إذا کان حالنا اليوم کذلک- إلا أنه لا يستطيع مدعٍ أبدًا أن يدعي أن هذه الأمة قد انقضت، أو أنها قد خلت تمامًا من العلماء والمفکرين المبدعين في شتى المجالات، بل إننا لا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا: إن نهضة أمريکا وأوربا الآن تقوم على العقول العربية المسلمة المبدعة التي تحتل مراکز القيادة في المؤسسات العلمية والتکنولوجية في ربوعها المختلفة، وأيضًا تقوم على تلک البحوث والجهود العلمية المهاجرة التي يبدعها خيرة علمائنا ثم يُفَعِّلونها هم؛ لتتحول في معاملهم ومختبراتهم من حيّز النظرية والتفکير المجرد إلى حيّز التطبيق الواقعي، مستغلين إمکانياتهم المذهلة، وإنفاقهم غير المحدود على البحث العلمي ومؤسسات التعليم في مراحله المختلفة، وهو ما نفتقده في ديارنا إلى حدٍّ بعيد.
وفي مجال علوم الشريعة نستطيع أن نقرر بثقة أن هذا العصر لم يخل -والحمد لله- من علماء جهابذة قاموا بجهود مشکورة في فروع الشريعة المختلفة، وهم الذين قال عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يحمل هذا العلم من کل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين».
صحيح أننا ابتلينا في هذا العصر أکثر من غيره بأدعياء العلم والمتطفلين على موائده تحت مسميات عديدة، لکن العلماء العدول والحمد لله يقفون بالمرصاد لکل دَعِيٍّ متطفل، ولا تزال عقول هذه الأمة تتفتق عن مواهب مبدعة تستکنه أسرار الشريعة وحکمها ومقاصدها، وتستنطق النصوص بما يوائم العصر وتطورات الزمان.
وإيمانا من دار الإفتاء المصرية بمهمتها الجسيمة في هذه الأجواء المتخمة بالأدعياء والمتطفلين على موائد العلم، هذه المهمة التي تتجاوز أمر إصدار الفتاوى المقررة سلفًا في الخطوب والنوازل، إلى المساهمة الفاعلة في إعادة بعث هذه الأمة من جديد عن طريق نشر صناعة الفتوى الصحيحة، ومحاولة تحويل هذا الجانب إلى بحوث ورسائل علمية متخصصة تتناول بعمق القضايا المثارة، وبطريقة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، والمثالية والواقعية، ولا تغفل النظر المصلحي، ولا الجانب الإنساني بأبعاده الروحية والتربوية والحضارية، مع مراعاة جهات التغيُّر الأربع: الزمان والمکان والأشخاص والأحوال.
لهذا وغيره کان هذا التفکير المدروس من قبل دار الإفتاء في إصدار مجلة علمية محکمة تستنهض بها همم الباحثين الجادين في علوم الشريعة بفروعها المختلفة کي يسهموا بإنتاجهم العلمي المحقق والموثق في إثراء هذه الأمة والخروج بها من أزمتها الحضارية، وهذا الانغلاق الفکري الذي يجد له أنصارًا کثرًا يملئون الساحة بضجيجهم وعجيجهم، ينصبون أنفسهم مفتين وحاکمين على سرائر المخالفين لهم، فيرمونهم بالفسق والتبديع وربما التکفير.
وقد تأملت الأعداد الثلاثة التي صدرت قبلُ من هذه المجلة المميزة، فوجدت بحوثًا جادة تتناول بعمقٍ الکثيرَ من القضايا الشائکة والعالقة.
وفي هذا العدد الذي أقدم له توجد باقة من البحوث الجادة المتنوعة؛ لتکون إضافة جيدة إلى ما سبقها من بحوث، ونأمل -إن شاء الله- أن تتواصل مسيرة العطاء للعلم والبحث العلمي، وأن يکون لهذه المجلة المبارکة نصيب أوفر من هذا العطاء تحت رئاسة الإمام الأصولي الفقيه الأستاذ الدکتور/ علي جمعة. حفظه الله تعالى.